يشعر الشخص غالباً وهو يقرأ رواية بأنه أمام وقائع حقيقية. هذه الحالة من التماهي مع حكاية بين دفتَي كتاب تمثل التأثير الخفي للأدب، لكن هذا الأثر قد يدفع البعض لتدمير هذه المتعة، أو إيذاء صانعها.
غاية الأدب هي المتعة، والترفيه، وشحذ الخيال، لكن الحدود بين الواقع والخيال لا تزال غائبة في ثقافتنا العربية. ويتحوَّل عدم إدراك الفروق بين الخيال والواقع إلى كارثة حينما يستغل البعض القانون لتدعيم سيطرتهم على كتاب لم يرقهم أو للانتقام من كاتب. وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا لا يبحث مَن يظن نفسه وصياً على الفن عن نوعية مختلفة من الكتب أو وسائل أخرى ليمتع أوقاته بها؟
آخر ضحايا هذه الوصاية الكاتب التونسي أيمن الدبوسي وعمله الأدبي الأحدث “أخبار الرازي” (منشورات الجمل، 2017).
قبل القراءة
أحدثَ كتاب الدبوسي أزمة حتى قبل توزيعه في تونس، إذ جَمَعَت نقابة العاملين بمستشفى الرازي تواقيع على عريضة تمهيداً لرفع دعوى، لأن العاملين بالمستشفى العام للصحة النفسية (يقع في ولاية منوبة شمال تونس) والذي سبق أن عمل فيه الدبوسي، شكّوا في كون المجموعة القصصية تُسيء لمقر عملهم وسمعته وسمعة العاملين فيه. وتزايد الجدل حول “أخبار الرازي” على وسائل التواصل الاجتماعي وبين المستخدمين التونسيين، الذين اعتبروا أن المسألة تمس أخلاقيات المهنة وأسرارها. فتمت دعوة الناس لتوقيع عريضة لمحاكمة الكاتب بسبب شخصيات تخيلها وكتب عنها، قبل أن توزع المجموعة القصصية. لم يكن الكتاب ضمن منشورات الجمل في معرض القاهرة الدولي للكتاب (26 يناير - 10 فبراير). "لم يأتِ بعد"، كان الرد على السؤال عنه في المعرض. ومن المفترض أن يوزع الكتاب في تونس خلال الدورة رقم 33 من معرض تونس الدولي (من 24 مارس إلى 2 أبريل القادمين). بدت المسألة مرتبطة بدبوسي وليس بكتابه، إذ بدأ العاملون بمستشفى الرازي هجومهم بعد ظهوره في حلقة من برنامج ثقافي في 21 يناير الماضي على شاشة قناة الحوار التونسي متحدثاً عن كتابه.ما الأدب؟
يكتب أيمن الأدب ويعمل اختصاصياً نفسياً. كتب "أخبار الرازي" في 2014، ورغم أن العنوان يحمل اسم مستشفى الأمراض النفسية الذي عمل فيه، فإن ما كتبه ليس تقريراً بل عملاً أدبياً، ويؤكد كاتبه أن كل الشخصيات والأحداث تندرج ضمن التخيّل البحت. قَدّمَ أيمن في روايته الأولى انتصاب أسود (الجمل، 2016) كتابة لا تتهرب من وصف المشاهد الحسية، وتعرضها دون تحفظ أو مواربة. كما لم يعمد لتغيير أسماء الأعضاء الجنسية تأدباً أو خدمة للذوق المحافظ. تجسد الرواية التغيّر الكبير الطارئ على الشباب التونسيين منذ قيام ثورة 14 يناير. يبدو هذا التغيير جلياً في نقاش شخصيات الرواية، عبر مشهد جنسي على سرير يجمع الراوي بصحافي فرنسي جاء يبحث عن أسرار الثورة، وصديقته. كانت الثورة من أجل الفوضى والفرح، وليس من أجل الانتخابات كما يؤكد الراوي، الذي يدعى أيمن ويعمل بمستشفى الرازي. سبق أن عَمَلَ الدبوسي في مستشفى الرازي ست سنوات، قبل أن يقدّم استقالته. يدوّن في “أخبار الرازي”، عبر شذرات، عملاً أدبياً خيالياً عن مكان يحمل حكايات مكثفة تصف بؤس المجتمع. كما يدعو الجميع لكتابة حكاياتهم عن الرازي، كلّ من منظوره الخاص. يعتبر الدبوسي إن الجدل المثار حول كتابه "جنون"، لأن محاكمة الأعمال الأدبية من شأن النقد الأدبي وحده. يقول لرصيف22 "بدأوا بإعداد عريضة في المستشفى لرفع دعوى علي. كان الممرضون بالأساس هم من حرّكوا هذه العريضة وبعض الأطباء". ولكن الأمور هدأت بعد ذلك، إذ يضيف الدبوسي: "تراجعوا... بعض العقلاء أقنعوهم بأنهم لن يتمكنوا من التوصل إلى شيء. كانوا سيحدثون ضجة فارغة". الخيال ليس جُرماً، لكن كثيراً ما يُساء توظيفه كدليل إدانة. قد يُسجن كاتب لأن القوانين لا تستثني النشر أو الإبداع من جرائم خدش الحياء العام، أو يتعرض كاتب آخر لمحاولة اغتيال إذا قُرئَت كتابته بشكل تحريضي يكفره أو يتهمه بالمساس بالذات الإلهية. جميع هذه المسارات منبعها قراءة سيئة للأدب أضرّت بالكُتّاب وحريتهم بسبب قراء أرادوا فرض سيطرتهم على أخيلَة كُتّاب زمانهم. كانوا ينظرون للأدب بعيون كارهة، تراه مساحة للإدانة، وساحة لارتكاب الجرائم، أو نصاً يقتل الفضيلة ويهز قيم المجتمع.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 5 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 3 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...