على خلاف غيرها من الأسواق العالمية المواكبة لعصر التكنولوجيا، لا تزال أسواق صنعاء القديمة هي الرئة الوحيدة التي تتنفس من خلالها عاصمة اليمن الحريصة على طابعها التقليدي.
تعد أسواق صنعاء من أقدم الأسواق في شبه الجزيرة العربية، إذ بلغ عمرها 2500 سنة، ووجد ما يشير إلى ذلك في "النقوش السبئية"، وقد سميت المنطقة بذلك الاسم نظراً لاشتهارها بالصناعات المختلفة كصناعة السيوف والنقود وأدوات الحراثة في عهد التجارة مع الدولتين "السبئية" و"المعينية".
المواطن الخمسيني حمود أحمد حمود قطع مسافة 250 كيلومتراً من منطقته الريفية في "محافظة تعز" - جنوب العاصمة اليمنية صنعاء - ليحصل على بغيته من أسواق صنعاء القديمة. "حمود" يؤكد أن بإمكانه الحصول على ما يريده من بضائع من أي سوق قريب من منطقته، غير أن لأسواق صنعاء مزية خاصة تجذبه إليها منذ تعرف عليها في مطلع شبابه.
ما يميز أسواق صنعاء القديمة أنها غير متداخلة، إذ كل سوق مستقل تماماً عن الآخر. بالإضافة إلى تبنّي التجار قوانين متعارفاً عليها منذ نشأة تلك الأسواق. ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي كان هناك عُرف يمنع أي شخص من ممارسة التجارة في السوق حتى يحفظ "فقه المعاملات"، وهو فرع في الفقه الإسلامي يهتم بالتجارة والمعاملات.
ومن مميزات أسواق صنعاء أنها تتكوّن من طابق واحد يناسب محيط السكن حولها بحيث لا يحجب عن نوافذها البعد البصري لمنظر المدينة. علماً أن المواد التي بني منها السوق هي أحجار استقدمت من "جبل نقم" المطل على ضواحي مدينة صنعاء القديمة، ومن منطقة همدان (30 كيلومتراً شمال صنعاء).
الحفاظ على الأصالة
نحن الآن نطوف في أسواق صنعاء القديمة التي يصل عددها إلى خمسين سوقاً، والتي ما زالت محافظة على تراثها التقليدي الأصيل. تطل هذه الأسواق من خلال حوانيت في الطابق الأرضي، وهي مفتوحة على الشارع من بيوت طينية متراصة وموزعة بطريقة مميزة، وكل سوق يختلف عن الآخر، فضلاً عن وجود اسم لكل سوق وأزقة خاصة به، حيث نجد سوق "المشغولات اليدوية" الذي ما زال محافظاً على صنعته التقليدية، وسوق "البز" (الثياب) الذي يكثر فيه بيع الزي الشعبي الذي يحرص على اقتنائه عادة أهالي صنعاء القديمة، وخصوصاً أثناء تزيين العرسان، وسوق "المدر" (الأواني الفخارية) الذي يعرض المصنوعات الحرفية بأشكالها المختلفة.
ويقدم سوق العسوب المعروف بإسم "سوق الجنابي" أهم عنصر في الهندام اليمني وتحفة الصناعات الحرفية وهو "سلاح الجنبية". يقول الحاج عبدالله العزيري - صاحب أكبر متاجر بيع الجنابي في أسواق صنعاء القديمة - لرصيف22: " إن "سوق العسوب" أو ما يعرف بـ"سوق الجنابي" هو أقدم الأسواق الشعبية نظراً لتلازم هذا الزي وعدم انفصاله عن الهندام اليمني وخاصة في المناطق والمدن الجبلية".
يظل سوق الجنابي مكتظاً بالناس طوال العام، وخصوصاً في الأعياد والمناسبات الدينية، ويعلل عبدالله ازدهار هذا السوق إلى السير على خطى الأجداد في صنع وتركيب الجنبية المشهورة باسم "الخنجر اليماني".
سوق العقيق
يبرز سوق العقيق اليمني الأحجار الكريمة والثمينة الملونة. يقول عبدالكريم نزار، وهو خبير العقيق اليماني، إن الكثير من أبناء مناطق ومدن يمنية مختلفة يفدون إلى سوق العقيق في صنعاء القديمة والكائن في سوق الملح بالتحديد لبيع أحجار العقيق اليماني، وتعود شهرة سوق العقيق إلى أن معظم زواره هم من الذين يعتقدون أن العقيق يطرد الأرواح الشريرة.
وفي أسواق صنعاء القديمة، العديد من ألوان التسوق الشعبي: سوق الفضة وسوق النحاس وسوق الحطب وسوق العنب وسوق العطارة وسوق الحناء وسوق الخريف الخاص بـ"الفواكه".
أصالة منذ القدم
يقول الدكتور علي سيف (استاذ التاريخ في جامعة صنعاء) إن أسواق صنعاء القديمة تعود إلى ما قبل الإسلام، إذ كان يقام السوق في 15 شعبان من كل عام، كما "سوق العرب" في الجاهلية. كان يقصده التجار من كل مكان، فكان هناك سوق يسمّى بـ"سوق العراقيين" وآخر بـ"سوق الشاميين" إلى جانب الأسواق الحرفية الأخرى التي كانت قبل الإسلام.
لا تزال تلك الأسواق حتى الآن في المكان نفسه، كما أضيف حولها ما يسمى بـ"السماسر" أو الأسواق الحرفية التي تصنع الأدوات المحلية كـ"سوق النحاس"، و"سوق الحدادة" الخاص بالأدوات الزراعية، و"سوق الفتلة" لصناعة الخيوط، و"سوق المعطارة" الذي يصنع فيه الدهون والزيوت. وهنالك أيضاً أسواق أخرى، كـ"سوق اللقمة" الخاص بالخبز و"سوق العرج"، و"سوق الحبوب" ، و"سوق الزبيب"، و"سوق البن"، و"سوق القات"، وسوق "الحمير"، و "سوق البقر"، و"سوق المُلَح" الذي أطلق عليه العثمانيون هذا الاسم من وحي جمال بنات صنعاء، وهو تحول الآن إلى "سوق المِلح".
اندثار وشيك
على الرغم من حفاظ هذه الأسواق على أصالتها، يخشى الكثير من التجار اندثارها بسبب الإهمال الذي يعتري مدينة صنعاء القديمة وخصوصاً بعد تهديد منظمة "اليونسكو" بشطب المدينة من قائمة التراث العالمي عام 2013، إذا لم تزل المخالفات والتشوهات المستحدثة للمدينة ومبانيها الأثرية وأسواقها، وهو ما سيؤثر سلباً على حركة هذه الأسواق، وتالياً يؤدي إلى اندثارها.
خصوصية أسواق صنعاء القديمة وطابعها التراثي بدآ يواجهان تحديات مختلفة تتمثل في الظروف الاقتصادية الصعبة للبلاد، والتي انعكست سلباً على الأيادي العاملة، كما أن عدم الترويج اللائق لهذه الأسواق أعاق حركتها التجارية، ناهيك بأن بعض السلع الحرفية بدأت تتأثر بهجرة الحرفيين للبحث عن أعمال أخرى أكثر جدوى. ويتسبب ضيق الممرات في السوق بعدم دخول السيارات المحملة بالبضائع ولا سيما مع وجود المارة بشكل كثيف.
يقول الدكتور ناجي ثوابه، رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية في اليمن، إن أسواق صنعاء لم ترمم بسبب انعدام المخصصات المالية والظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تمر بها البلاد. ويضيف أن أعداد السياح الذين كانوا يزورون هذه الأسواق قبل عقد من الزمن وصلت إلى أكثر من مليون سائح سنوياً قبل أن يقل العدد إلى 20 ألف سائح حتى اندلاع الثورة الشبابية في اليمن عام 2011 ، لكن هذا الرقم تحول إلى صفر بفعل الأحداث الأمنية الأخيرة التي جعلت الدول تمنع مواطنيها من السفر إلى اليمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه