شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكنوا من نسيانها | الجزء الأول

مذكرات وصور من زحام المخيّم لن تتمكنوا من نسيانها | الجزء الأول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 31 يناير 201712:38 م

هذه المذكرات مبنية جزئياً على أحداث حقيقية مع توظيف الخيال في بعض تفاصيلها مراعاةً لخصوصية شخوصها.

إنه يومٌ عادي في المخيم الذي أسكن وأراقب. لست مكلفاً مراقبة الناس من جهة عليا، للتأكد أن الغليان لم يصل حد الانفجار بعد، فهناك كثر يقومون بهذه المهمة على أكمل وجه. أنا مراقب حكماً، المراقبة قدري وهوايتي، ولست أعرف هوايةً ممتعةً ومؤلمةً مثلها في هذه البقعة المكتظة التي يسمع فيها الجار شخير جاره ومناكفاته مع زوجته، ويسمع عراك الأطفال الذين يخسرون "جلولهم*" حتى وهو يختبئ تحت لحافه! في عيد ميلادي المقبل، أُتم الخامسة والعشرين من العمر، ولكن قلّة تحتفل معي. ولدت بلا صوت، أبكم في حارة لا يهدأ صراخها. أعرف بكماً آخرين، ولكن لا أشعر بأنني أشبههم، فهؤلاء يحظون بتعاطف الجميع، وأنا منبوذ من الجميع. كل الحكايات التي سمعتها لم يروِها الناس لي مباشرةً، ولكنني سمعتها لأنني أعيش في مكان بلا أسرار! لمدةٍ طويلةٍ، كلّما وجّه لي شخص الكلام، قال "بتستاهل". حسبت أنهم يقصدونني، وأنني ارتكبت جرماً بحقهم، فكنت أومئ برأسي طويلاً أتوسل التفسير، فيقول "مش أنت.. أمك اللي بتستاهل". وكأن السبب هكذا أصبح واضحاً! لم أفهم ما فعلت أمي، تلك السيدة البسيطة التي قضت حياتها تبكي بعد كل صلاةٍ بحرارة. كانت سيدة أمية، وثرثارة، ولكنها بدت لي شديدة الإيمان من شدة بكائها في كل ركعة، حتى كُنت أخمّن وأنا في مدخل المنزل الذي نستعمله لاستقبال الضيوف أيضاً وهي في غرفتها كم ركعة أتمّت من عدد مرات النحيب.
تفاصيل من هذه البقعة المكتظة التي يسمع فيها الجار شخير جاره ومناكفاته مع زوجته.. حتى وهو يختبئ تحت لحافه
أخوانها سمعوا ما ضل فيهم عقل، دعسوها بباص لصارت عجين.. ماتت سحر وطلعت بنت لما ماتت.. بتعرف شو يعني بنت؟
ولكن اللغز وجد من يفكّه لي عندما كنت في السادسة عشرة من العمر، عائداً من منزل صديقي الوحيد الذي يحبّني ويدعوني إلى حارته على الرغم من أنه ينتمي إلى "حارة البدو"، وأنا من "حارة الفلاحين". حتى هذا التقسيم لم أكن أفهمه، ولكنه بدا راسخاً في عقول الناس الذين جاءوا إلى هذه البقعة بعد أن اقتلعوا من وطنهم الأصلي بنكبةٍ ونكسةٍ وكل توابعهما! آه، كنت عائداً إلى منزلنا، وصادفت بالطريق سيدة ما زلت أذكر ما قالته لي بالحرف: "بتعرف يا خالد... والله أنك مسكين ومالك ذنب! بس أمك سبب دمار أختي... أختي كمان انعمت قد ما بكيت على بنتها... أمك مرة أجت وقالت أنه بنت أختي سحر كاينة فايتة على بيت عند جيران النا بس بعيد ساكنين، وقال عندهم واحد ويمكن سحر بتروح عشانه... أخوانها سمعوا ما ضل فيهم عقل، دعسوها بباص لصارت عجين... ماتت سحر وطلعت بنت لما ماتت... بتعرف شو يعني بنت؟ يعني ما حدا لمسها بس أمك افترت عليها! يوم ما عرفنا أنه كلكم طلعتوا خرس... زغردنا زي ما نكون بعرس أهل النا... انبسطنا من قلبنا مش رح أكذب عليك. قلنا هاي جزاتك يا هادية! الله لا يسامحك لا دنيا ولا آخرة!" وصلت إلى المنزل يومذاك بعد أذان المغرب بقليل، ووجدت أمي منكبةً على سجادتها، غارقة في دموعها، تماماً كما خُيّل لي أن سحر غرقت في دمها، وهي تتفرّج. لم تعُد دموعها تؤلمني منذ ذلك الحين، وأفكاري لم تعد منطقية... فكّرت أن أبرم عهداً مع الله، وأن أتخلى طوعاً عن حاسة أخرى من حواسي فتعود سحر إلى الحياة، بكراً أو ثيباً، لا يهم!

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image