لم تجد ألعاب الخفة، التي يطلق عليها البعض اصطلاحاً "السحر"، طريقها إلى العالم العربي قبل ثمانينات القرن الماضي.
موانع عدّة حالت دون دخول هذا الصنف من الاستعراض إلى دول المشرق، حيث الدين يقبض على معظم مفاصل الحياة.
رجال الدين عموماً، والمسلمون منهم خصوصاً، حالوا دون تنامي ألعاب الخفة عربياً، فربطوا بينها وبين ما يعرف بـ"السحر الأسود".
رجال الدين
خصّص بعض رجال الدين حلقات برامجية كاملة لتفسير خدع شغلت الناس طويلاً، فانتشر على يوتيوب مقطعٌ مأخوذ من برنامج حواري يظهر فيه الشيخ المصري علاء سعيد، وهو يبذل جهداً لكشف خدعة الساحر الأميركي دايفيد كوبرفيلد David Copperfield، حين قام باختراق سور الصين العظيم خلال دقيقتين. هذا التخويف الديني جعل بعض لاعبي الخفة يؤكدون، مراراً، خلو استعراضاتهم من الشعوذة والتواصل مع العوالم الموازية. لكن ذلك لم يدفعهم للإقرار بأن ما يقومون به ليس أكثر أو أقل من خفة يدٍ كرسها التمرين وغذتها العلوم. مثل هذا الاعتراف يحول "الساحر" إلى شخص عادي، ويلغي تفوقه الناتج عن تعامل العامة معه، على أنه رجل صاحب إمكانات خارقة. يقول كميت سكيف، لاعب الخفة السوري، الذي ما زال في طورِ البدايات: "إلى وقت ليس ببعيد، بقي الناس يعتقدون بأن ألعاب الخفة هي نوع من السحر أو الشعوذة." يعلل سكيف ذلك بأن عدم قدرة الناس على تفسير الخدعة التي حدثت أمامهم، يدفعم للتسليم بارتباط الحدث بالروحانيات والعوالم الموازية. ويضيف: "أما اليوم، فيعرف معظم الناس أن هذا فن يعتمد على خفة اليد، وبعض الأدوات التي تعمل بميكانيكية معينة". ويوضح: "بعض لاعبي الخفة يدعون أن ما يقومون به عصي على الناس العاديين، وهم يكرسون أنفسهم كرجال خارقين من خلال الاعتماد على سلوكيات غامضة، أو هوية شكلانية غريبة تعطيهم تميزاً عن العامة. لكن هذا لا يلغي تطوّر مستوى الوعي لدى الجمهور، وإن كان منسوبه مختلفاً بين بلد وآخر". أمور أخرى تحول دون تطور لاعبي الخفة العرب. فبين ندرة أدواتهم وألعابهم في الأسواق وارتفاع سعرها، يصبح من الصعب على "الساحر" الشاب، كسكيف وزملائه، تطوير مهاراتهم.عروضٌ بلا شخصية
يمتلك عدد من لاعبي الخفة في العالم العربي خبرة تمكنهم من تأدية بعض الخدع المدهشة، لكن استعراضاتهم ظلت محكومة بشيء من "الفوضى" الناتجة عن غياب "الكراكتر"، أو الشخصية. فيعانون من عدم بنائهم لشخصية واضحة المعالم، تحولهم إلى نماذج متفردةٍ في لعب الخفة، على غرار المعلمين الكبار في أميركا والغرب. دايفيد كوبرفيلد، مثلاً، قدم ما يُمكن أن ندعوه، اصطلاحاً "الساحر الدون جوان". فحرص على الاعتناء بوسامته في عروضه كلّها، ولم تكن انفعالاته تتعدى أنصاف الابتسامات. هذه الشخصية المتزنة، ساعدت الشاب الأميركي على إقناع الناس بأمور خارجة عن سياق المنطق. فبعض من شاهدوا استعراضه الشهير في نيويورك، صدقوا أنه أخفى تمثال الحرية حقاً. هذا الاختراق ناتجٌ عن إتقان الساحر عمله أولاً، وعن الوهم الذي كونه في لا وعي الجمهور، من خلال شخصيته الغامضة، ثانياًرجال الدين حالوا دون تنامي ألعاب الخفة عربياً، إذ ربطوا بينها وبين ما يعرف بـ"السحر الأسود"
هل من David Copperfield خاص بالعالم العربي؟ من هم أبرز لاعبي الخفة العرب وما هي أسرار هذا العالم؟.
ساحر "الروك آند رول"
شخصية مختلفةٌ رسمها الأمريكي كريس إينجل Criss Angel، واحدٌ من أشهر لاعبي الخفة في العصر الحديث. الشريحة التي يستهدفها هذا الموهوب تتكون من المراهقين واليافعين بصورةٍ رئيسة. لذلك، اختار شخصية تحاكي، في المظهر، بما فيه من أزياء وإكسسوارات، مغني الروك آند رول. الأمر الذي كمّل اللوازم التي لا بد من توافرها لجعل مُحدثي الوعي يصدقون أن "ساحرهم النجم" قد يطير مرة وقد يمشي على الماء غير مرة. بعيداً عن المثالين السابقين، تنبه المعلم "ذا أميزينغ جوناثان" The Amazing Jonathan إلى أن شكله لن يساعده على تقديمِ عروض ذات طابع جدي. وعليه، فقد مالَ الساحر الأميركي نحو خدع ذات طابع كوميدي، وصار، خلال فترةٍ وجيزة، واحداً من أكثر لاعبي الخفة نجاحاً في العالم.لاعبو الخفة العرب
رغم عدم امتلاك معظم لاعبي الخفة العرب هوية أدائية واضحة، إلا أن بعضهم حقق انتشاراً واسعاً. ويعتبر الشاب السعودي أحمد البايض أكثرهم شهرة في المنطقة. أمن له ظهوره في برنامج "آرابس غوت تالينت" شهرة كبيرة. ثم وفرت له شبكة "إم بي سي" أكثر من ظهور، حتى أنها أنتجت له برنامجاً يدعى "خفة"، قدّم فيه عروضاً ومجازفات ممتعة. ويعتبر عرض "وادي الجماجم" الأكثر دهشةً في سجل البايض، إذ قاد سيارة في منحدرٍ خطر، وهو معصوب العينين، دون أن يكترث للسيارات والشاحنات الّتي تعبر الطريق جيئةً وذهاباً. كذلك اكتسب الساحر الإماراتي معين البستكي، شهرة سريعة من خلال ظهورات إعلامية متتالية على فضائيات عدة. ولم يقدم عرضاً فيه فتح في عالم الخفة، فوصلاته ليست أكثر أو أقل من نسخ لخدع سبقه إليها سحرة سابقون. ولعل أشهر خدعه الإطلالة التي جعل خلالها الممثل الكويتي طارق العلي يطير فوق طاولة.قراءة الأفكار ومعرفة ما يدور في الرأس
يبدأ فيلم "ناو يو سي مي" Now You See Me بالساحر دانيال آتلاس Daniel Atlas، الذي يلعب شخصيته الممثل جيسي إيزينبرغ Jesse Eisenberg، وهو يقدم عرضاً في شارع مزدحم. يمرر أوراق الكوتشينة أمام عيني واحدة اختارها من بين الجمهور، ويطلب منها أن تخمن كرتاً ما. يصور المخرج المشهد من مسافةٍ قريبة، ما يشجع مشاهدي الفيلم خلف الشاشات، على المشاركة في اللعبة. عند انتهاء التخمين، يلقي أتلاس البطاقات في الهواء، لتظهر نقشة السبعة الديناري على واجهة أحد الأبنية. الأمر كان صادماً للغاية، فغالبية المشاهدين في السينمات والمنازل كانوا اختاروا هذا الكرت وضمنوه في عقولهم. هكذا، بدا وكأن الساحر قرأ أفكار الناس عبر الشاشات. السرّ يكمن في جعل سبعة الديناري تأخذ ثانية مضافة عن الكروت الباقية قبل أن تنقلب كسابقاتها، ما يجعل العين تشاهد هذه البطاقة زمناً أطول، فتحفّز العقل على الاحتفاظ بالرقم والنقشة. بعبارةٍ أبسط، الناس لا يختارون ما يريدون، بل ما يريده لاعب الخفة. هذا الصنف من الخدع، القائم على وهم قراءة الأفكار، وتخمينِ المستقبل، يعتبر الأكثر غموضاً وإثارة للدهشة دون شك. المثال السابق، بأرقامه واعتماده على المعرفة بنظام عمل العين والعقل، يختصر حقيقة مفادها، أنه لا بد للساحر المتمكن أن يكون عارفاً بثلاثة علومٍ رئيسة، هي الرياضيات والفيزياء والطب. ضمن السياق عينه، أدهش أحمد البايض الجمهور مراراً حين كرّر خدعة تقوم على جعل أحدهم يخمّن واحدةً من بطاقات الكوتشينة في عقله، لتحل المفاجأة حين يفتح أوراق لعبٍ مختومة، ويظهر الكرت، الذي خمنه الضيف، مقلوباً على وجهه الآخر، دون سائر بطاقات اللعب الباقية. هنا، يبدو وكأن البايض قرأ شخصية ضيفه، واستطاع أن يحدّد، مسبقاً، رقم ونقشة الكرت الذي سيخمنه، فقلبه قبل بدء الخدعة، وجعله يحدث نفسه بعيد انتهائها. السرّ في هذه الحيلة يكمن باستعمال أوراق لعبٍ خاصة تدعى Invisible cards والمصممة، خصيصاً، لتنفيذ هذه الخدعة التي حيرت العالم طويلاً. لاعب الخفة اللبناني "جينو"، كان قدم هذا النوع من الخدع أيضاً خلال ظهوره الدوري، في أحد البرامج الصباحية لقناة الحياة. في واحدةٍ من هذه الخدع، شغل جينو ثلاثة ضيوفٍ دفعة واحدة، جميعهم شاركوا في اللعبة، ولو تبدّل المعطى الناتج عن مشاركة أي منهم، لما نجح الساحر اللبناني في خدعته، لكن الأمور سارت على نحو يجعل الجمهور واثقاً بوجود ما هو سحري في الاستعراض.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...