شهد المجتمع المصري أخيراً أساليب عقابية بعيداً عن القانون، وهي تعتمد على التنكيل والإهانة والـ"تجريص" لمن يُراد معاقبته، منها تعريته وإجباره على ارتداء قميص نوم نسائي والطواف به في الشوارع، أو إجباره على ركوب حمار بـ"المقلوب"، أو تجريده من ملابسه والتبوّل عليه، أو ربطه بعمود الإنارة.
في البداية، قد يظن البعض أن تلك الأساليب جديدة، ولكنها في الحقيقة ظهرت إبان حكم السلاطين المماليك والولاة العثمانيين لمصر، وقد اندثرت في العصر الحديث، إلا أنها رجعت مرة أخرى، فأعادت المجتمع لقرون مضت.
إلباس رجل قميص نوم نسائي والطواف به
خلال شهر يوليو الماضي، بقرية الخواجات التابعة لمركز يوسف الصديق في محافظة الفيوم، استدرجت أسرة زوجة، على خلاف مع زوجها، الزوج، من قرية شعلان، إلى قريتهم (الخواجات) وقاموا بـ"تجريصه" عبر إجباره على ارتداء ملابس زوجته عقاباً له على التشهير بها على صفحات فيسبوك ونشر صور خاصة لها، وقاموا بالطواف به في القرية، رداً على طلبها الطلاق منه.
تلبيس شيخ قميص نوم نسائي أحمر
بعد الواقعة الأولى بثلاثة أشهر، انتقمت عائلة الزوج الذي تم تجريصه، من عائلة "أبو شناف السالمونى"، بقرية شعلان، في الفيوم، واستدرجت شيخ البلد بقرية الخواجات، ج. اللاهوني (أحد أقارب الزوجة) وتم إلباسه قميص نوم أحمر رداً على تجريص الزوج، بالطريقة نفسها.
التبوّل على شاب عقب تجريده من ملابسه
التنكيل بالحمار
قبض أهالي قرية تل الكاشف التابعة لمركز الزرقا في محافظة دمياط على لص فراخ وبط، يدعى "محمود م .ا" أثناء تسلقه أسطح منزل أحد أهالي القرية، وقيدوه بالحبال، ثم أركبوه بالمقلوب على ظهر حمار وجابوا به أنحاء القرية، ثم اصطحبوه إلى مقر الشرطة.الربط بعمود الإنارة
ربط صاحب محل بيع مواد غذائية يدعى هشام ع.، بمنطقة العجيزي بحي أول محافظة طنطا، وعدد من الأهالي، لصاً بعمود الإنارة عقب التعرف عليه من خلال كاميرات المراقبة بالمحل، ثم قاموا بإخطار الأجهزة الأمنية بالواقعة. يقول هشام بحري أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر لرصيف22"، إن الأساليب التي استخدمها الأهالي كانت تستخدم قديماً في عصر السلاطين المماليك عندما حكموا مصر. وعن وقائع التبول على الشخص، قال إنه من المعروف أن الناس تتبول في المراحيض أو الشارع، ولكن عندما يتم التبول على شخص ما، فهو نوع من الإهانة الشخصية، وهنا ارتبطت العقوبة بأن تكون مهينة، وأمام العامة، من أجل الإيذاء النفسي الشديد، مشيراً إلى أن المجتمع المصري شهد حالات خلع لملابس في الشارع، في مرات عدة، من باب التنكيل بالضحية أيضاً.أسباب انتشار العنف باستخدام التنكيل في مصر
لماذا يلجأ البعض للاقتصاص من الآخرين بعيداً عن ثقافة القانون والدولة؟ لماذا التنكيل والإهانة؟ وهل هناك أبعاد سياسية أو اجتماعية أو نفسية دفعتهم لذلك خاصة أن طرق التنكيل تلك تخالف كل القيم والعادات والتقاليد التي تربى عليها المجتمع خاصة في القرى؟ أرجع الدكتور هشام البحيري، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، سبب انتشار العنف في المجتمع المصري إلى استخدام الأهالي للعقاب الفردي بدلاً من القانون، لأن الشرطة سوف تسجن المتهم دون أن يراه الآخرون، ولكن هم يريدون "فضحه" في العلن، بتطبيق شعار "من يريد الحق يأخذه بالقوة، وأفضل طريق للحق هو القوة"، وهنا يرون الحق من منظورهم فقط.إلباس رجل قميص نوم نسائي والطواف به، التبوّل على شاب عقب تعريته.. أساليب عقاب جماعية استخدمت في مصر مؤخراًَ!
المصريون يحيون تراث المماليك في التنكيل بعضهم ببعض... إهانة أمام العامة باستخدام أساليب غريبةوذكر الدكتور البحيري سبباً آخر هو العنف والبلطجة فى المسلسلات المصرية، إذ يأخذ الناس منها "قدوة"، وخير دليل على ذلك مسلسل "الأسطورة"، الذي عرض تنكيل البطل رمضان بأحدهم خر عبر "تلبيسه قميص نوم وزفته في الحارة"، فتأثر الأهالي بذلك وطبقوا المشهد نفسه على أرض الواقع. ويضيف الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسي وعميد كلية الآداب بجامعة القاهرة السابق، لرصيف22، سبباً ثالثاً لاستخدام المصريين العنف بعيداً عن القانون، وهو عدم فاعلية القانون، في معاقبة الذين لا يحترمون جسد الإنسان. فلو تم تطبيقه فستنتهي تلك الظواهر، مشيراً إلى أن السبب في عدم تطبيق القانون بحزم هو ضعف الدولة ونفوذ القائمين على عمليات العنف مستشهداً بأحد البلطجية الكبار في مصر - رفض ذكر اسمه - حينما قال كلمة شهيرة أثناء محاكمته "احنا الدولة". وتقول سميحة نصر، أستاذة علم النفس، ورئيسة شعبة بحوث الجريمة والسياسة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، لرصيف22: " هنالك ثلاثة أسباب جديدة لانتشار العنف من خلال التنكيل والإهانة، وهي خلل في النسق القيمي لدى المجتمع، والضغوط الحياتية والعملية والنفسية، والرغبة في تأكيد الذات. وقالت إن المواطن عندما يضيق به الحال يريد أن يخرج ما بداخله ضد الآخرين، بدوافع فرض السيطرة، مثل تلبيس شخص لآخر قميص نوم نسائي لإيصال رسالة لكل أفراد القرية بأن من يفتح فمه، فهكذا سيكون مصيره. واتفق زايد مع البحيري في أن تلك العقوبات "عودة للماضي"، مثل "السلفيين" الذين يحيون تراث الماضي" - على حد تعبيره - وهذه العقوبات كان يستخدمها سلاطين المماليك والحكام العثمانيون في مصر، كنوع من الاستقواء والبلطجة، مشيراً إلى أن الفرق الراهن هو أن الحكام والولاة هم من كانوا يستخدمون تلك العقوبات للتنكيل بالفلاحين المصريين، إلا أن الجديد أن يقوم الفلاحون باستخدام تلك الأساليب بعضهم ضد بعض خلافاً لتقاليدهم، وكأنهم دولة داخل الدولة.
وقائع تاريخية تؤكد تراث المماليك في التنكيل بالمصريين
ذكر كتاب الدكتور مبارك محمد الطراونه: "الحياة الاجتماعة فى بلاد الشام في عصر المماليك الجراكسة"، الأتي:"ومن العقوبات العزيرية التى استخدمها المماليك التشهير والتجريص واستخدمت لجرائم القتل والزنا والكذب وغيرها، مما لا يكافئ نوع الجريمة، ويتم التشهير في الطرقات والشوارع على مرأى من الناس وذلك بإجلاس المذنب على دابة حمار أو جمل أو بغلة أو ماشياً حافي القدمين معرى من الملابس والثياب، مقلوباً مكشوف الرأس ويديه مغلولتين بالزناجير وعلى رأسة طبلية وينادى عليه بنوع الذنب وحتى يبالغون فى إهانته يقرع الجرس فوق رأسه لسمع الناس ويتجمعون حوله". وفي كتاب "المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية في عصر السلطان قايتباى" للمؤرخ القاضى ابن الصيرفي، ذكر الفصل الرابع من الباب الأول الذي جاء بعنوان "شريعة التعذيب في عصر قايتباى"، أساليب للتنكيل بالمصريين منها "التعرية": "وهي طريقة كانت تستخدم لإذلال الضحية عبر تعريته، وخلع عمامته، وكان في ذلك أبلغ إذلال له"، وذكر أيضاً أساليب "التجريص والتشهير"، وهي طريقة لفضح الضحية عبر إركابه على حمار، والتجوال به في الشوارع، والمناداة عليه بما فعل ليكون عبرة لغيره.موقف الدستور وقانون العقوبات المصري
وعن هذه الجرائم، قال سعيد عبد الحافظ، رئيس ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان لرصيف22 إن ارتكاب تلك الجرائم يعكس غياب الدولة ومؤسساتها، والتقصير الأمني فى مواجهة الظواهر الخارجة عن التقاليد والأعراف الدينية، والرغبة في ممارسة أدوار الدولة. وأكد أن قانون العقوبات يحوي ما يضمن تحقيق الحفاظ على حرمة الحياة الخاصة والأمان الشخصي، لكن المشكلة تكمن في ضعف الإجراءات القانونية والقضائية في تطبيق القوانين، وغياب ثقافة القانون لدى البعض، إذ يأخذ أحدهم حقه الشخصي أولاً ثم حق المجتمع. ورأى أن الحل فى إحداث تغيير ثقافي واقتصادي لتلك المناطق التي تتسم بالجهل والفقر، عن طريق توعية أهلها بضرورة تطبيق القانون وإبراز دوره فى تنظيم العلاقات بالمجتمع.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...