هناك على الشريط الحدودي الفاصل بين سوريا وتركيا أو ما يسمى بالجزيرة، يقول الكرد في سوريا عن تركيا (سرختيه) أي ما فوق الخط، ويقول الكرد الذين في تركيا عن سوريا (بن ختيه) أي ما تحت الخط.
لم يتعلموا كلمتي تركيا وسوريا إلا لاحقاً، كان العالم بالنسبة لهم هو ما فوق وما تحت الخط، ولمَ لا، فمعظم العائلات هناك مقسومة إلى نصفين، نصف هنا، ونصف هناك، وبنسبٍ متفاوتة، والنصفان ممنوعان من تداول كل ما يمت إلى كرديتهم بصلة، وبنسب متفاوتة أيضاً، ففي تركيا كانت اللغة الكردية ممنوعة من التداول حتى في البيوت، بينما في سوريا فقد اقتصر منع التحدث باللغة الكردية على الدوائر الرسمية والمدارس والجامعات والأمسيات الشعرية والقصصية والمسرحيات.كان الجميع في منطقة الجزيرة يتحدثون الكردية كلغة عامة تجمع سكان المنطقة، الكرد والسريان والآشوريون والعرب والمحلميون والشرابيون والشيشان والأرمن والخاتونيون والغجر والتات، والتات هم فئة من سكان الجزيرة لا أحد يعرف ما هي أصولها، وهم شقر وعيونهم ملونة، لذلك ينسبهم العارفون بشؤون تاريخ الجزيرة إلى الرومان، كل هؤلاء وسواهم يتحدثون في أسواق مدن الجزيرة وشوارعها باللغة الكردية الممنوعة من التداول ما إن تدخل إلى مبنى حكومي.
بالطبع، لو كان بإمكان الحكومة منع تداول اللغة الكردية في الشارع لفعلت، لكنها لم تستطع، تماماً كما لم تستطع منع الغناء باللغة الكردية في الأعراس، ولو أنها حاولت ذلك. ففي أسطورة حسن عازف البزق التاريخي لمدينة الدرباسية والذي يكتفي بالعزف في الأعراس دونما غناء أنه كان مغنياً ذات يوم، وأثناء عزفه في إحدى الأعراس تهجم عليه رجال مخابرات لأنه يغني بالكردية وضربوه. من يومها صمت حسن عن الغناء واكتفى بالعزف، والغريب أن معظم أعراس الدرباسية كانت تكتفي بعزف حسن بلا غناء، فقد كان عزفه كفيلاً بجمع أهالي الدرباسية في حلقة رقصة الكورمانجي الشهيرة لساعات وساعات.
بدأت الأعراس في الدرباسية بتغيير طابعها ودعوة مطرب آخر ليحيي الحفل في وصلة بعد أو قبل وصلة حسن المطلوبة بشدة، ومن المطربين الشهيرين هناك رمو، أو رمضان نجم أومري المطرب وعازف الجمبش، وهو النجل الأكبر لفنان كردي قديم هو نجم أومري الذي كان يغني ويعزف على الطنبور أو الساز الكردي القديم بالأصابع دونما ريشة. لكن تقاليد الأعراس في باقي المناطق الحدودية تلك لم تكن لتكتفي بالعزف فقط، بل كان بهلوانات العزف مطربين أيضاً، ومنهم عادل حزني وهو نجل حزني المغني والعازف على الساز الكردي القديم أيضاً، لكن عادل يعزف على البزق الكهربائي، ويؤلف الأغاني عن كل شيء، حتى أنه غنى عن روماريو بمناسبة فوز البرازيل بكأس العالم 1994، وقد صرح لي شخصياً بأنه لم يترك شيئاً في الدنيا لم يغنِّ عنه.
أثار تصريحه الشهير، بأنه عندما يموت سيحتفظون بجسده في متحف ويبيعون كل قطعة منه ليصل ثمن جسده إلى مليارات الدولارات، ضجة كبيرة في أوساط القامشلي وردوداً من باقي المطربين تنال منه بشكل أو بآخر، فالمطربون الذين لا يعرفهم أحد خارج حدود هذا الشريط الحدودي نجوم معتدّون بأنفسهم كثيراً، كما أنهم غزيرو الإنتاج، إلى درجة يقولون فيها أن المطرب فارس أبو فراس من مدينة عامودا يسجل كل يوم أغانٍ جديدة بواسطة مسجلة عادية وينشرها في الأسواق على كاسيتات، وكان أن أحدهم طلب كاسيتاً له من محل المغني والعازف الأسطوري سعيد يوسف لبيع الكاسيتات، فسأله سعيد يوسف: أي شريط لفارس أبو فراس تريد، شريط الصبح، أم شريط العصر، أم شريط المساء؟!
يستطيع المطربون تأليف الأغاني عن كل شيء، أي حدث بالنسبة لهم هو فكرة أغنية، فعماد كاكلو يغني عن مصطو شوفير البسكليت في عصر الأنترنت، ويغني عن طلاق بشيرو من زوجته، ومرة في القامشلي وبينما كنت أمشي بصحبته في الشارع ألقى طفل واقف على سطح بيته السلام على عماد، سألت الطفل إذا ما كان يستمع إلى أغاني عمادو، فأجاب الطفل أن نعم، سألته عن أغنيته المفضلة من أغانيه، فأجابني: الأغنية التي هجا فيها عمي.
أما في ديريك فإن جمال سعدون كان المسيطر الأكبر على الأعراس بمنافسة من عادل فقة، وكان جمال يغني منذ الطفولة، إلى أن ظهر آزاد فقة وروني. وهناك في ديريك تختلف طرائق الغناء، ويحل الجمبش كآلة شعبية محل البزق، وتتراوح الأجور من مطرب لآخر، بل إن بعض المطربين مستعدون للغناء مقابل أجور لوجستية، فيقولون إن المطرب محمد درويش ذهب إلى عرس في قرية جرنكة قرب عامودا محمِّلاً أجهزته وأعضاء فرقته على موتور شبلي ذي الدواليب الثلاثة وكانت الأجرة شوالين (كيسين ضخمين) من التبن مع ثلاث عواميد خشب لإكمال بناء سقف بيته الطيني.أما المطرب أكرم درويش فقد ذهب إلى عرس في جرنكة أيضاً محمِّلاً أجهزته فوق طبلية حصَّادة كبيرة، وكانت الأجرة تنكة سمنة، لذلك يتندرون بأن قيمة أكرم الفنية كانت أقوى من قيمة محمد درويش لأن السمنة كانت ذات قيمة جماهيرية اكتر من التبن والعواميد. تبقى هذه النوادر ملح أحاديث أهالي الجزيرة ومطربيهم الظرفاء، فيقولون إن عبد القادر سليمان المطرب الشهير تيسرت أموره فاشترى أجهزة صوت، فكان يخرجها كل يوم صباحاً ويجلس أمام الباب ويعزف بينما شقيقه الصغير مسعودو يعزف على الدربكة ويغني معه، وكان المارة الذاهبون إلى عملهم أو مدارسهم يتوقفون لدقائق يرقصون فيها في حلقة رقص الكورمانجي قبل المضي إلى العمل أو المدرسة بنشاط لا مثيل له.
يبقى صلاح رسول (أبو روجين) هو الأسطورة الشعبية الكبرى في أعراس قامشلو، فلا أحد يمكنه مقاومة الرقص في حضرته، حتى أن مفتي القامشلي أصدر فرماناً بمنعه من إقامة الأعراس في أمكنة قريبة من الجوامع، لأن المصلين كانوا فور سماع عزفه يرقصون بشكل لا إرادي بجنون لا يستطيع كبحه رجل أمنٍ أو رجل دين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.