"الثورة مستمرة" و"اليأس خيانة" اثنان من الشعارات التي كان إيماننا بها قوياً خلال السنوات الأربع التي أعقبت ثورة 25 يناير، إلا أن الحال تغير والإيمان تزحزح من المكان الذي كان فيه - في قلوب بعضنا - وصارت "اللهم هجرة" دعوة كثيرين منا "آناء الليل وأطراف النهار".
بدلنا الهتاف الذي هز ميادين الثورة في مصر "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، بصورة لعشرات الآلاف على كوبري قصر النيل وهم في طريقهم إلى ميدان التحرير إبان الثورة مصحوبة بتعليق "أخبروا أولادكم أن ثورة قد مرت من هنا". الثورة فشلت فدعونا نعيش في صمت.
"كيف أعيش في صمت؟"، هذا هو الإشكال العميق الذي واجهته عندما قررت العيش في مصر... في صمت. "لا تظاهرات، ولا حديث في السياسة"، بينما في السجون والقبور كثير من رفقاء الدرب. كنا نهتف سويا "عيش – حرية – عدالة اجتماعية"، فلا وجدنا "عيش" ولا رأينا "حرية" ولا شعرنا بأن هناك "عدالة اجتماعية".
في صمت أسير 5 كيلومترات حتى لا أدفع جنيهاً ونصف الجنيه في وسيلة مواصلات، لأتمكن من شراء "عيش" للعشاء. وسأفعل في الغد نفس الأمر. أكثر من 15 مرة في الشهر أفعل أموراً مثل هذه، لأعيش... في صمت. وبالمناسبة من قال "مفيش حد بيبات من غير عشاء" كاذب.
لا أفكر في الإنجاب مرة ثانية. بالكاد أتدبر أموري وزوجتي وابنة أتمت عامين منذ شهرين.
منذ أيام زاد سعر عبوة حفاضات الأطفال 60 جنيهاً.
"لا بد أن تعلمي ابنتك الذهاب للحمام»... هكذا آمر زوجتي، التي نجحت في ذلك بنسبة 80% قبل ارتفاع الأسعار الناتج عن تحرير سعر الجنيه، فترد: «نحن في فصل الشتاء... لذا لا تنجح في السيطرة على نفسها كل مرة".
كنت أحلم قبل ذلك بإنجاب طفل، أراه وهو يلعب كرة القدم… أصبحت أتابع محمد صلاح، وهو يشارك مع "روما" في الدوري الإيطالي، لأنسى حلمي، وأعيش في مصر.. في صمت.
"احنا شعب كسول"... يؤكد الموالون للنظام هذا الأمر، ويلمح رئيس الجمهورية لذلك.
عادة استيقظ في الثامنة صباحاً، لأتوجه إلى عملي مبكراً.
ذات يوم في محطة مترو الأنفاق، كنت انتظر القطار للذهاب إلى العمل، وحين جاء كان مزدحماً جداً، فقررت الانتظار واستقلال القطار التالي، إلا أن الأمر لم يمر مرور الكرام. جاءني ضابط شرطة للتحقيق معي، والتهمة؟ عدم ركوب المترو!
"كفى عبثٌ"... أتحدث مع نفسي، في حين ابتسم للضابط ليوضح أكثر التهمة التي ارتكبتها. نصف ساعة قضيتها في محطة المترو، حتى أتى ضابط من الأمن الوطني للتحقيق معي، وطلب مني بلطف ألا أفوت قطاراً مرة أخرى!
لم أكتب عن تلك الواقعة من قبل، فأنا أرغب بالعيش في مصر... وفي صمت.
منذ أن قررت العيش في مصر... في صمت، أوقفتني الشرطة أكثر من 5 مرات، لأسباب «تافهة» تكشف البطش والتجبر والاستبداد ضد شخص يعيش في صمت. ولم أكتب عبر صفحتي على فيسبوك عن واقعة واحدة.
مررت بتجربة الاعتقال في ظل هذا النظام قبل أن يصل السيسي لسدة الحكم بشكل رسمي، خلال تغطيتي مظاهرات 25 يناير 2014. ورغم أنها كانت 13 ساعة فقط إلا أنها كانت كفيلة بأن تغير طريقة تفكيري وتقديري للأمور.
كان أمناء الشرطة الذين يتناوبون على مراقبتنا خلال فترة الاعتقال كُثر... كان أحدهم يقول «إيه اللي منزلكم... تسكتوا ولا تموتوا... أنهي أحسن».
لا أريد أن أموت... لن أموت من أجل لا شيء... لن أموت من أجل هذا الوطن.
يقولون "الوطن ليس فندقاً نغادره حين تسوء الخدمة".
لن أضحك على هذا الهراء، ولن أقول: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله».
عندما يقتل الوطن أبناءه ويعذبهم في أقسام الشرطة، ويخفيهم قسرياً، ولا يوفر لهم حياة كريمة، يحق لكل إنسان في هذا الوطن أن يغادره دون أي مزايدات فارغة.
«يحق لكل فرد أن يغادر أي بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه».
المادة (13) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
اللهم هجرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 3 أيامأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 3 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 6 أيامtester.whitebeard@gmail.com