تعيش المدن السورية التي تسيطر عليها التنظيمات الإسلامية المتطرفة، فترة مظلمة من ناحية الحريات العامة والشخصية، التي تعمل هذه التنظيمات على وأدها. لكن هذا الواقع المظلم لا ينال ما يستحقه من الاهتمام الإعلامي، حتى من اهتمام الناس، بسبب المعاناة الإنسانية التي تخلفها الحرب في هذه المدن، التي تتعرض بشكل متكرر للقصف الجوي والمدفعي. فينشغل الإعلام بتسليط الضوء على الواقع العسكري والإنساني، وينشغل الناس بمداواة جراحهم والبحث عن سبل البقاء على قيد الحياة.
في الوقت نفسه، تواظب المكاتب الدعوية والمحاكم الشرعية التابعة لهذه التنظيمات، على إحداث التغيرات التي تنشدها في المجتمع، داخل المناطق التي تسيطر عليها، لترسيخ وجودها. وتستخدم في ذلك وسائل شتى، منها لافتات الشوارع، واللافتات على طرق السفر، والشعارات المدهونة على الحيطان.
تقوم مكاتب تابعة للتنظيمات المتشددة، وأبرزها "جبهة فتح الشام- النصرة سابقاً"، و"أحرار الشام"، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، بنشر هذه اللافتات بشكل منظم في جميع المدن التي تسيطر عليها، سعياً لتغيير سلوك الناس، وفقاً لمعتقداتها وبرمجة تصرفاتهم على هواها. ومن أبرز هذه المكاتب ما يسمى بهيئة الفتح للدعوة والأوقاف، الذي يشرف على نشر هذه العبارات في مدينة إدلب وريفها.
محتويات اللافتات ودلالاتها
الديمقراطية طاغوت العصر
تحمل الكثير من اللافتات عبارات معادية للديمقراطية، رصدنا منها "الديمقراطية طاغوت العصر"، و"الديمقراطية طريق التخلف" و "الديمقراطية شرك". لم تخف هذه التنظيمات يوماً عداءها للديمقراطية، التي تدعي أنها شكل من أشكال "الشرك بالله"، وأن الحكم له وحده وليس للشعب. وبالطبع، تقدم نفسها على أنها ممثلة لحكم الله على الأرض، حتى لا يجرؤ أحد على معارضة حكمها أو المطالبة بالتغيير.احذر العلمانيين
"العلمانية دين الغرب"، و"احذر العلمانيين"، هاتان العبارتان نموذج من العبارت والشعارات الكثيرة، المكتوبة على اللافتات في الشوارع، وتهدف إلى تشويه صورة النظام العلماني في أذهان الناس. وبالرغم من السذاجة التي تبدو عليها هذه الشعارات، لا يمكن إنكار التأثير الذي تحدثه في العقول، ما يصب في النهاية في مصلحة بقاء السلطة للنظام الديني، النظام الذي تدعي هذه التنظيمات بأنها تمثله. في الواقع، لا تشكل هذه اللافتات أدوات مؤثرة في المجتمع السوري، بقدر ما تعكس ما يجري فيه، إذ تعتمد هذه التنظيمات في تسويق نفسها على ثغرات عديدة أولاها عدم الفهم الواضح للنظام العلماني، لدى العديد من فئات المجتمع السوري، الذي تعتبره نظاماً معادياً للدين. والاعتقاد السائد بأن النظام السوري يمثل النظام العلماني، بالرغم من أن القوانين السورية مستمدة من الشريعة الإسلامية.السيجارة تُؤخر النصر
تتشدد هذه التنظيمات في ملاحقة المدخنين في المناطق التي تسيطر عليها، وترفع لافتات من قبيل "التدخين حرام" و"السيجارة تؤخر النصر"، كما تقوم بمصادرة علب الدخان من المحلات، وإلحاق العقوبة بالمدخنين في مناطق معينة. تقول صفاء التي تعيش في مدينة الأتارب في ريف حلب: "علب السجائر لم تعد معروضة في المحلات منذ زمن، وهي تباع خفية عن طريق النساء، أشتري لي ولزوجي من إحدى جاراتي، ولا ندخن إلا في المنزل. في العام الماضي أحرقوا لجارنا علب دخان قيمتها أكثر من خمسين ألف ليرة (235 دولاراً أميركياً) ومنذ ذلك الحين لم يعد يخاطر بشرائها".كاسيات عاريات
"يا جيش الفتح أين شرع الله، نساء إدلب كاسيات عاريات"، هذه العبارة هي من أكثر العبارات المكتوبة على الحيطان، في شوارع مدينة إدلب، ظهرت هذه العبارة بعد سيطرة جيش الفتح على مدينة إدلب بفترة وجيزة. وشهدت تلك الفترة، اشتعال فتيل ثورة ذكورية ضد المرأة، مستمرة حتى يومنا هذا. إذ جابت شوارع المدينة تظاهرات قام بها متشددون، هتفوا بالشعار الأخير نفسه، وطالبوا المحيسني مفتي تنظيم فتح الشام (النصرة سابقاً) وتنظيمه، بتطبيق ما وصفوه بشرع الله بحق هؤلاء النسوة، وأوليائهم، ما أثار سخطاً شعبياً ظلّ مكتوماً على المسيطرين الجدد.عندما تستخدم التنظيمات الإسلامية المتطرفة ”فنون الشارع المعاصرة” لإيصال أفكارها وترسيخ وجودها
"يا جيش الفتح أين شرع الله، نساء إدلب كاسيات عاريات"، "السيجارة تؤخر النصر"... ابحث عن شعارات التنظيمات المتطرفة على الحيطانيصف عبد الرحمن الذي كان يعمل تاجراً في إدلب تلك المرحلة: "شعر الكثيرون بالغيظ، وهو يرون فتية تعرفوا على الدين حديثاً، يصفون نساءهم بهذه الأوصاف. لطالما كان لباس النساء في إدلب محتشماً، للأسف لم يوقفهم أحد عند حدهم منذ ذلك الوقت، كل ما حدث هو بعض المشادات الكلامية ليس أكثر، فالعديد منهم كانوا مسلحين، وكانت المدينة قد خرجت للتو من معركة وبدأت تتعرض للقصف".
يحرم حلق اللحية
لم يقتصر التضييق الذي تمارسه هذه التنظيمات المتشددة على لباس المرأة، إنما طال لباس الرجل أيضاً ومظهره، وهذا بارز في اللافتات التي "تحرم حلق اللحية". يقول خالد، الذي كان كان يعيش في مدينة إدلب: "الغالبية العظمى من الرجال والشبان يطلقون لحيتهم خوفاً من المضايقة والمحاسبة، ونوعاً من الزهد بالحياة، كما لا يمكن للشبان استعمال جيل تسريح الشعر، أو وضع أي قلادات أو أساور من أي نوع. بات اللباس الأفغاني شائعاً في الشارع، لكنه يخص عناصر هذه التنظيمات. أما الرجال فيتجنبون لبس الجينز، ويلبسون الجلابيات التي كانت شائعة في الريف السوري في السابق".الغناء حرام
إن كنت تسير بسيارتك على إحدى الطرق العامة الواصلة بين القرى، في ريفي إدلب وحلب، فغالباً لن تجد عبارة طرقية تحذرك من السرعة أو من وجود مطب مقبل، لكنك قد تجد عبارة تحذرك من تشغيل المذياع على الطريق، أو حتى من أن تدندن على الطريق، بحجة أن "الغناء حرام".الأركيلة حرام
لا يعرف السوريون سرّ العداء الكبير بين الفصائل الإسلامية والمتشددة والنرجيلة، فعبارة "الأركيلة حرام"، من أكثر العبارات التي حرصت على كتابتها على الحيطان واللافتات الطرقية، لكن كل ما استطاعت فعله هو زيادة شهية محبيها لها، ومنع بيعها بشكل علني. لم يعد محمد وهو شاب ثلاثيني يعيش في ريف مدينة إدلب يصطحب أركيلته، إلى المحل الذي يعمل فيه كالسابق، كما لم يعد بمقدوره شراء المعسل. يقول: "لدي كميات احتياطية من المعسل في المنزل، لا يهمني مهما كتبوا. كلما رأيت هذه العبارة اشتهيت نفساً من الأركيلة وعدت إلى المنزل وأشعلتها".المرأة عورة حتى ظفرها
تقيم المكاتب الدعوية التابعة لتنظيم "جبهة النصرة" في مدينة إدلب وريفها، العديد من الحملات السخية، لنشر لافتات تدعوا فيها إلى إلباس النساء الزي الأسود الفضفاض الكامل، وترفع شعارات عديدة "كالحجاب الحجاب" و"الالتزام بالنقاب" و"الحجاب يا بنت الإسلام" وغيرها. وتنشر صورة لكائن أسود بالكاد تظهر منه معالم الشكل البشري، على أنها الصورة المثالية للمرأة، التي تريدها هذه التنظيمات في المجتمع. تقول مها، وهي مدرسة من مدينة إدلب: "قبل سيطرة هذه التنظيمات كان المعطف الطويل هو السائد لدى أكثر الفئات تديناً في إدلب، إلا أنه لم ينل رضا المتشددين الذين طالبوا بالزي الأسود، الذي يمنع المرأة من التنفس والمشي والحركة. نجحت هذه التنظيمات في نشر هذا الزي، لكن ليس بسبب هذه اللافتات، إذ يحاول الكثيرون تجنب الإزعاج أو العقوبات التي طالت الكثيرين، بسبب زي بناتهم أو زوجاتهم والملاحقات للبنات في المدارس والشوارع".المهاجرون إخوتنا
تحاول الفصائل الإسلامية المقاتلة في سوريا جاهدة، دمج المقاتلين الأجانب، الذين يقاتلون في صفوفها، وعائلات البعض منهم في المجتمع الجديد. وتبذل في سبيل ذلك محاولات كثيرة، أبرزها الدعوات التي يوجهها أئمة المساجد، التابعون لها في خطب الجمعة، التي يدعون فيها الناس لقبول تزويج بناتهم من المقاتلين "المهاجرين"، بحجة أنهم جاؤوا لنصرتهم ويستحقون ذلك. هذه الدعوات يمكن ملاحظتها أيضاً من خلال الكثير من اللافتات التي كتب عليها "المهاجرون إخوتنا".إحذر المزاح
في المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات المتشددة، لا يكفي أن تتجنب عبارات الكفر الشائعة، لتتجنب الاعتقال و التأديب. إنما عليك أن تكبت نفسك عن عبارات المزاح، التي قد تودي بك إلى الجحيم، لأن عناصر التنظيم سيعتبرونها كفراً. لكن لا تقلق، فستجد لافتة طرقية تذكرك بالأمر! يقول أبو صالح وهو مدرس في مدينة إدلب: "قال لي أحد الطلاب إنهم كانوا يلعبون بالكرة في إحدى الحدائق، حين غضب زميله من خسارته وصاح بأعلى صوته: يلعن سما الطابة، وسمعه أحد عناصر جبهة النصرة، فاقتاده وحبسه ثلاثة أيام مع الضرب، وكتب والده تعهداً بأن لا يعيدها، كما أجبروه على اتباع دورة شرعية في أحد المساجد".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...