منذ أكثر من خمسة أشهر، عاد مقاتلو البشمركة رمز الهوية الكردية إلى ساحات القتال للدفاع عن أرضهم ضد تهديد مقاتلي الدولة الإسلامية. قد لا يختلف اليوم عن البارحة، فالنساء الكرديات يقاومن سواءً عبر الإنضمام إلى قوات البشمركة البالغ عددهم 200,000 مقاتل أو عبر تقديم الدعم اللوجستي. رصيف22 أمضى نهاراً مع هؤلاء الثوريات: زوجات وأمهات ومقاتلات في ساحات المعركة، وفي حياتهن اليومية.
"أنا مستعدة دوماً للقتال" تقول كسير، 27 عاماً، وهي تقف تحت أشعة الشمس الحارقة عند نقطة استطلاع أمام ثكنة الوحدة النسائية للبشمركة في منطقة السليمانية، المدينة الثانية في إقليم كردستان. تضيف: "تدربت على ذلك. إذا ما داهمني أي خطر، أحمل سلاحي وأطلق النار. تعهّدت أن أدافع عن أرضي وعن حريتنا". إذا كان تشكيل وحدات البشمركة يعود إلى العام 1943 على يد عائلة برزاني المؤسسة للحزب الديمقراطي الكردستاني فإن تأسيس فوج المقاتلات الكرديات يعود إلى العام 1996.
"الحرب؟ أعرف تماماً ما هي، فقد شاركت في حروبٍ سابقة" تقول العقيد ناهدة أحمد رشيد، قائدة الوحدة النسائية في قوات البشمركة. كانت في الـ14 من عمرها عندما حملت السلاح أول مرّة. انتسبت إلى المقاومة وراحت تنقل المعلومات السرّية.
في العام 1991، عندما بلغت الـ18 عاماً، شاركت في حروب الشوارع ضد قوات صدام حسين على الرغم من الوهن الذي كان يصيب أفراد مجتمعها، الذين ظنّوا أن الإستقلال أقرب إلى المستحيل. تتذكر: "كنا نسخر مما يقوله الناس. يومذاك، تحولتُ إلى مقاتلة في صفوف قوات البشمركة".
بعد انتهاء الحرب ضد صدام حسين، انضمت ناهدة إلى مكتب العلاقات الدبلوماسية للاتحاد الوطني الكردستاني مستفيدةً بذلك من لقاءاتها المتكررة بجلال طالباني مؤسس وزعيم الاتحاد الوطني ورئيس العراق من العام 2005 إلى يوليو 2014. هدفها كان إقناع طالباني بتشكيل وحدة نسائية تابعة لقوات البشمركة. نجحت في ذلك، وحشدت 61 امرأة كردية لم يقاتل العديد منهن سابقاً. "تطوّعن في البشمركة سعياً وراء حريتهن ولكي يشاركن في فرض الحكم الذاتي للإقليم" تقول، بينما تدخل ابنتها إلى مكتبها. استطاعت التوفيق بين حياتها كأمّ وامرأة وزوجة، تقول: "زوجي قبل خياراتي، فهو أيضاً مقاتل في صفوف قوات البشمركة".
يضم فوج مقاتلات البشمركة اليوم بين 500 و600 امرأة معظمهن ينفذن مهمات مراقبة في المستشفيات أو في مخيمات اللاجئات ضحايا العنف. تضيف العقيد قائلةً في سياق مقابلة أجريت معها منتصف شهر أغسطس: "منذ شهر يونيو تولّت النساء مهمات على حواجز القوات الكردية بدلاً من الرجال الذين توجهوا للقتال، كما انضمت 20 مقاتلة إلى رجال البشمركة على الخطوط الأمامية لقتال الدولة الإسلامية وذلك في بلدتَي بشير وتازا قرب كركوك". لمقاتلي البشمركة عدوٌ مشترك، وساحة قتال مشتركة، وسلاح مشترك، فالنساء كما الرجال مسلّحات ببنادق الكلاشينكوف.
في مواقعهن في ثكنة السليمانية، يبدو على الجميع الجهوزية لمواجهة الموت. تتفق كلٌ من ريجين وسوما وكرمان، اللواتي أتممن أخيراً الـ20 عاماً، على تنفيذ عرض تجريبي لاستخدام الأسلحة، ولكن يفضّلن القيام بذلك في الظلّ.
العزيمة تبدو واضحة على محياهن، لكن حركاتهن تعكس في بعض الأحيان التردد. "جاهزات للموت" (الترجمة الحرفية لكلمة بشمركة) في المعركة، انضمّت نساء البشمركة للقتال في صفوف القوات المسلحة الكردية للدفاع عن حرية إقليم كردستان. ولأنهن غالباً ما يكنّ بنات أو شقيقات رجال البشمركة، يؤكدن بالإجماع على أنهن يحظين بالدعم الكامل من عائلاتهن.
تقول المقاتلات الثلاث: "بعضُ أصدقائنا يحسدوننا ويتمنون الانضمام إلى صفوفنا". وفي الحديث عن المقاتلات اللواتي قاومن منذ العام 1940 تضيف كرمان:"نعتبرهن مثالنا الأعلى. هن اللواتي بدأن ما نحن بصدده اليوم والفرق الوحيد هو أننا اليوم مدربات على مستوى أعلى من مستوى تدريبهن".
ذكريات سنوات حرب العصابات
رأي تتفق معه بهية، المرأة الستينية التي أمضت سنوات شبابها في الجبال الكردية تقاوم: "لا تختلف مقاتلة البشمركة اليوم عن مقاتلة الأمس في ولائها وعزيمتها. إنهن مقاتلات بشمركة معاصرات. إنهن لسن وريثاتي، بل إنهن أنا". إذا كانت النساء اللواتي يحملن السلاح نادرات، فالأخريات دعمن أزواجهن في أوقات الحرب. "إنني فخورةٌ لأنني تزوجت من مقاتل بشمركة" هذا هو حال بهية المتزوجة من سعيد كاكا غوماشاني، الذي لم يتوقف عن القتال من العام 1961 إلىى العام 1991، إذ كان مسؤولاً عن فرقة مؤلفة من 50 مقاتلاً.
سنوات صعبة مرّت على بناتها الثلاث وعقودٌ من الخوف والدموع. تستحضر هيرو، الابنة الكبرى، سنوات الحرب مع صدام حسين وتقول:" لم يكن نظام صدام حسين يترك أحداً بسلام، كانت قواته تقتحم المنازل بحثاً عن كل كردي. يكفي أن يجدوا شريطاً صوتياً لمغني ثوري كردي ليُقتلوا. كانت أمي مقاتلة بشمركة، كانت امرأةً شجاعة وثورية حقيقية. تتبع أبي في الجبال التي كانت ملاذنا الآمن الوحيد. وفي الجبال حيث التجأنا صنعنا بيوتنا من عوارض خشبية وطين. انتقلنا بشكلٍ دائم من مكانٍ إلى آخر وكانت أمي تهتم بقطف الخضر وإطعام الحيوانات وتهيئة الطعام. كانت تستقبل المقاتلين على طريق الجبهة وتهتم بالجرحى وتخيط السجاد لتبيعه. أتذكر يوماً وبعد هزيمةٍ لحقت بقوات البشمركة، رمى أحد المقاتلين سلاحه أمام والدتي فما كان منها إلا أن التقطت السلاح وقالت له إنه إذا كان لا يريد القتال فعليه الاعتناء بي وستذهب هي بدلاً منه إلى الجبهة".
بقيت الأختان الأكبر سناً في أربيل من العام 1979 حتى العام 1991 لمتابعة تحصيلهما العلمي ولم تلتقيا عائلتهما إلّا في عطلة الصيف. تقول هيرو: "كنت انظف السلاح وأدهنه بالشحم وأعد الرصاص، شهدت معارك وسمعت دوي انفجاراتٍ هائلة. لم يسبق أن شاركت في المعارك لكنني جاهزة للقيام بذلك إذا احتاجوا إلي".
شاركت الفتيات سابقاً في عمليات نقل سلاح مع والدتهن على الرغم من حواجز الجيش العراقي. تتذكر سنور: "في إحدى المرات، وكان عمري 10 سنوات، كنا نهرب السلاح على متن شاحنة، فخبأناه داخل حمولةٍ من الفاكهة والقمح وجاء عناصر من الجيش العراقي لمساعدتنا على دفع الشاحنة التي كانت عالقة في الوحل".
مقاومات في المدينة كما في الحرب
اليوم، تحمل هيرو كما سنور واختهما الصغرى شنو شهاداتٍ جامعية "كثيراً ما حظينا بتشجيع أهلنا على متابعة تحصيلنا العلمي والقتال ليس في الميدان فحسب، بل كذلك عبر التعليم لكي يصل رأينا إلى الآخرين وندافع عن حقوقنا ونشارك في بناء كردستان"، لكن، يا للأسف، ها هي الحرب تعود لتطرق أبوابهم. في منزلها في أربيل تعد هيرو وجبات الطعام لمقاتلي البشمركة على الجبهة وهي حزينة جرّاء التطورات الأمنية في الإقليم حالها حال والدتها منذ 30 سنة. "أحاول التظاهر بأن كل شيءٍ على ما يرام، كما لو كنت ممثلة، ولكنني أفكر دوماً في الأيزيديين. نعتقد أن مجزرة الأنفال التي ارتكبها صدام بحق الشعب الكردي عام 1988 والتي استشهد فيها ستة أفرادٍ من عائلتي قد دفنت في صفحات التاريخ ولن تتكرر مجدداً ولكن علينا أن نكون مستعدين لأننا معرضون لمجزرةٍ مشابهة".
إنّ تعقيد التاريخ الكردي يريد لفوج النساء الوحيد في البشمركة أن يكون متصلاً بالاتحاد الوطني الكردستاني وبوحدة البشمركة الخاصة به المؤلفة عام 1977. في حديثٍ لدبلوماسي غربي يقول: "منذ وقتٍ ليس ببعيد كان هناك وزيران للدفاع. عانت البشمركة من انقسامات تعود أسبابها إلى الأحزاب الكردية". توضح هيرو التابعة لحزب برزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) أن النساء يعتبرن من عديد قوات البشمركة التابعة للحزب، لكن لسن من عديد الشرطة. تعترض قائلةً: "تحارب النساء إلى جانب الرجال على الأرض، فلماذا فُصل بعضنا عن بعض وكُوّنت قوات خاصة؟ هذه عنصرية!".
عنصرية لا تشكّل صدمة للعقيد ناهدة رشيد التي تقول "لايعنيني إذا ما أصبحت عقيداً أو جنرالاً لفوج الرجال، إنني أقوم بعملي وهذا ما يهمني".
لم تنته فصول حكاية نساء البشمركة بعد. فبهية لديها الكثير لتقصه "أستطيع التحدث لساعات، أريد للجيل الجديد أن يكون مدركاً ما فعلناه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...