عندما يسألني الناس في العادة عن عملي، يصعب عليهم تحديد ماهيته، فماذا تفعل كاتبة ومترجمة مستقلة بالضبط؟ وكيف لا تكون تعمل في صحيفة يومية ولا تترجم في مكتب ترجمة معتمد؟ بيد أنهم سرعان ما يدركون أن ما يميّز عملي هو أن وقتي ملكي وحدي، وأنني لا أستيقظ على المنبّه، ولا أؤدي فرض الوجود لمدة ثمان ساعات متتالية بين أربعة جدران لإرضاء آلة التعرّف على البصمات على بوابة العمل!
بعد هذا الاكتشاف، يقولون إنهم يحسدونني على هذه "الحرية"، ويكون عليّ أن أقسم مراراً أن هذه الحرية رائعة ولكن لها ثمن. لهذا، ألخص فيما يلي أبرز الجوانب الإيجابية والسلبية للعمل المستقل، علماً بأنها قد لا تنطبق على العمل المستقل في جميع المجالات.
فلنبدأ بالجانب المشرق
أولاً: تصوّر نفسك في اجتماعٍ مملٍ لا تعرف الغاية منه بالضبط، أو في جلسة عصف ذهني تكاد لا تنتهي مع مؤسسة مجتمع مدني، أو في موقفٍ يجبرك على كتابة قصة صحفية أو مقال أنت لا تؤمن بمحتواه، ولكنه ضروري لبقائك في العمل. تخيّل أنك تملك ترف الخروج من كل هذه المواقف بأدنى الخسائر في حالة العمل المستقل، فقد تكون مضطراً لتحمّل اجتماع أو اثنين من هذا القبيل، ولكنك لست مجبراً عليها كل يوم كما هو حال الموظفين الذين يرمقونك بنظرةِ حسدٍ بينما أنت تغادر، وهم عالقون! ثانياً: يمكنك الذهاب إلى حصة يوغا في منتصف النهار، أو يمكنك أن تستيقظ بمزاجٍ سييءٍ ببساطة وتقرّر أن تقضي النهار مسترخياً في أي مكانٍ تريد، أو يمكنك الذهاب إلى المسبح في منتصف الأسبوع وتنتشي بهذه الحرية حتى تكاد تُقسم أنك لن تتخلى عنها حتى لو عُرض عليك تسلم رئاسة الوزراء. وكل ما سبق لا يحتاج لإذنٍ من أحد، أو تزييف تقارير طبية، أو اختلاق قصص منطقية بدقة لتبرر غيابك عن العمل! ثالثاً: لأنك مسؤول عن عملك، تشعر بمسؤولية أكبر لإنجاز المهمات، وتكون في الغالب أكثر كفاءةً ومهنيةً واهتماماً بالتفاصيل. ولا داعي للمماطلة في العمل، والخروج في استراحات للتدخين والصلاة والنميمة، فالمهمة واضحة ولا يوجد من يراقبك وتريد مناكفته. رابعاً: يمكنك أن تحافظ على اهتماماتك المختلفة من دون أن تضطر لقمع أي منها. تحب الكتابة في مجالات متباينة جداً، وتعلم اللغات، والطبخ من حين لآخر، والسفر واكتشاف كل باب غير مطروق، فليكُن وليخيب ظن منظري "الشغف الواحد" و"الرسالة الواحدة”! تتيح لك هذه الحرية خوض تجاربٍ متنوعةٍ لا يختبرها الجالس خلف الشاشة والملتزم بجدول واحد. تستيقظ يوماً ما للذهاب إلى مخيمات اللاجئين، وتستيقظ في اليوم التالي لتترجم محتوى لشركة سياحية تأخذك إلى معالم الهند السياحية وعجائب جنوب أفريقيا في ساعةٍ واحدةٍ، وتتعلّم أصول أهم أطباق هذين البلدين على عجالة! تلتقي بشباب يجهلون هوية ذويهم في الصباح، وتستمع إلى قصصهم الملأى بالأسئلة عن مجتمعك أكثر من الإجابات، ومن ثم تحرّر في المساء دراسة عن أثر النزاع في كولومبيا على النساء ومدى انتشار الجرائم الجنسية التي تقشعر لها الأبدان! بيد أن هذه الحريّة "غير المحدودة" تأتي بثمن.فلننتقل للجانب المظلم
أولاً: لا تتمتّع بمزايا التأمين الصحي والضمان الاجتماعي. بالطبع، يمكنك إيجاد برامج بديلة تتحمّل تكلفتها أنت ولكنها أكثر كلفةً في العادة. قد تواسي نفسك بأنك لا تحتاج للتأمين الصحي في الوقت الحالي، وأنك قرأت ذات يوم عن تحليلات اقتصادية تحذّر من إفلاس الضمان الاجتماعي الذي يجمع "تحويشات" الأردنيين فتشعر بأنك الرابح في هذه المعادلة، ولكن فكّر ملياً في هذين الأمرين! ثانياً: لا يوجد موعد محدّد لاستلام مستحقاتك المالية، ممّا يعني أنك عاجز عن التخطيط لأي شيء مسبقاً خوفاً من ألا تستطيع الوفاء بتكلفته لاحقاً. قد تأخذ نصائح كثيرة من أصحاب الخبرة، وتبدأ في صياغة عقود تنظّم العلاقة بينك وبين الأطراف المقابلة، وقد تشترط الحصول على نسبة من المبلغ الكلي عند توقيع العقد، ولكن الحقيقة المرّة هي أن معظم المؤسسات التي ترغب في العمل معها تشترط تسليم المهمة كاملة قبل دفع أي فلس، وتستغرق هذه في العادة وقتاً طويلاً لإتمامها. حتى بعد تسليم المهمة، لا يوجد موعد محدّد للدفع، أو للدقة، لا يوجد ضمانة على الدفع في الموعد المحدّد، فكم من عامل مستقل انتظر توقيع شخص مسافر أو شخص غير مكترث ليأخذ مستحقاته! ثالثاً: أنت غير معني بالعطل الرسمية، والمنخفضات الجوية التي تؤدي إلى إغلاق الطرق وتعطيل كل المؤسسات، فبينما يرقص الناس فرحاً بهذا الخبر ويشاركونه عشرات المرات على مواقع التواصل الاجتماعي، تكون أنت في وادٍ وهم في آخر! في الواقع، كلّما قرّر رئيس الوزراء الأردني تعطيل المؤسسات، ووصلها بعطلة نهاية الأسبوع، أي تلك التي تنشط فيها الرحلات السياحية إلى شرم الشيخ واسطنبول (شرم الشيخ الجديدة)، عليك أن تنتظر المزيد من الوقت للحصول على مستحقاتك. إذا كانت تصل عبر الحوالة البنكية، فالبنوك مغلقة والحوالة تحتاج إلى أيام عمل كما تعلم، وإن كنت تنتظر إجراء من القسم المالي لمؤسسة ما، فموظفو القسم المالي مستلقيون في بيوتهم أو منشغلون بالتصوير في عطلهم. وبالمناسبة، كثيراً ما يقرّر رئيس الوزراء مثل هذه العطل وخصوصاً هذا العام! رابعاً: لأنك تعمل لصالحك مرة أخرى، ولأن طبيعة هذا العمل غير مستقرة ومتذبذبة، تميل في الغالب إلى قبول كل مهمة تُرسل لك، لأنك قلق من عدم حصولك على أي عمل لاحقاً. النتيجة أنك تقبل بكمية أكبر بكثير ممّا تستطيع فعلاً إنجازه، وتجد نفسك تعمل لساعات أطول بكثير ممّا تريد. ثم تنهي هذه المهمّات بسرعة حتى تفرغ منها وتستطيع قبول غيرها، ومن ثم تجد نفسك في دوامة لا تنتهي، بينما الخط الفاصل بين العمل الصحي وغير الصحي يكاد يتلاشى نهائياً. برأيي المتواضع، باستثناء مجالات معيّنة محدودة، فإن فكرة الدوام الملتزم بمواعيد محدّدة، والقواعد الصارمة المرافقة له يجب أن تنقرض. بيد أن عدم الاستقرار الذي ينطوي عليه العمل المستقل بطبيعته، رغماً عن أنفك، يجلب معه التوتر المستمر الذي يؤثر عليك حتى صحياً في النهاية. أعتقد أن هناك توازناً دقيقاً بين الخيارين، ولكنني لم أكتشفه بعد!رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...