شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عندما أصبح الموت عادة يومية

عندما أصبح الموت عادة يومية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 26 أكتوبر 201610:27 ص
قبل 6 سنوات، في ليلة من ليالي شباط عام 2011، تحديداً قبل اندلاع الأزمة في سوريا، ماتت جدتي البالغة من العمر 71 عاماً. أذكر حينها أن "الدنيا خربت" في حي غويران الغربي في الحسكة. تجمهر أناس نعرفهم، وأناس غرباء لم نرهم من قبل، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء. كان لون لباسهم موحداً "الأسود"، لون الحزن كما يعتبرونه. ليس لأن جدتي كبيرة في السن، أو ذات مكانة اجتماعية خاصة أو استثنائية، بل لأن الموت في ديارنا كان للعجائز فقط. وكان حدثاً عظيماً أن يموت أي إنسان، مهما كانت صفته الاجتماعية أو فئته العمرية. وأذكر أننا أطفأنا التلفاز لأربعين يوماً، وأن الجميع لم يبتسموا طوال تلك المدة. وأكثر من ذلك، لم يكف الأهل والأقارب عن زيارة قبرها كل خميس، مع أن الطريق إلى المقبرة حيث دفنت طويل جداً. ولكن الأمر كان يستحق العناء. إنه الموت. بعد مرور هذه السنوات الـ6، يبدو أن المشهد تغير إلى حد خيالي. فما زلت أذكر تفاصيل زيارتي الأخيرة لسوريا منذ عام تقريباً، خصوصاً حي "غويران"، الحي الذي توفيت فيه جدتي. هناك رأيت الموت على كل جدار في المدينة، وفوق كل رصيف، وفي عيون المارّة، وبين أصابع الأطفال. تحت ظل كل شجرة خيمة عزاء، وفي كل دار فاجعة أو أكثر. أدمن الجميع أصوات الطائرات والانفجارات. ومع كل دوي يُسمع، هناك أحد مات، أو فقد بعضاً من أطراف جسده. ذات مرة، تحدثت مع أحد أصدقائي القدامى هاتفياً لأطمئن عليه. سألته كيف هو الوضع عندكم؟ أجابني ساخراً: نحن بخير، وأضاف: أصبحنا نتفحص جثث الموتى، ومن لا نجد في جثته شظايا أو رصاصاً، نخمّن أنه مات قهراً. أما هنا في بلاد اللجوء، لم ننج أيضاً من سيرة الموت، ولم يسعفنا الهرب من تجرع المأساة اليومية نفسها. فالهاتف، والصحيفة اليومية، والتلفزيون، والراديو، وزبائن المقاهي، وعابرو السبيل في الشارع، والجيران، لا حديث لهم سوى الحرب والموت، وذلك بشكل عام. أما على الصعيد الشخصي، فقد استأجرت أخيراً غرفة في حي "ساقية الجنزير" في بيروت، في الجهة الشمالية منها نصبت مكتبة صغيرة، وضعت فيها الكتب التي اقتنيتها في الماضي، وبعض أشرطة الـDVD، بالإضافة إلى 3 صور لـ3 إخوة فقدتهم خلال الحرب. مهلاً، 3 إخوة؟ كيف؟ ومتى؟ لا أدري. المهم أنني أتذكر فقط أنني خلال عامين، تلقيت ثلاثة اتصالات على هذا الهاتف اللعين تقول إن أخاك فلان مات! مات؟ بهذه البساطة؟ نعم مات. الأول مات بانفجار عبوة ناسفة، داسها عن طريق الخطأ، والثاني برصاصة قناص، يقولون إنها طائشة، ولكنني على يقين أن القناص كان يختبر مدى مهارته في اصطياد الأبرياء، وواثق أيضاً أنه ابتسم ابتسامة الفخر، حين جاءت رصاصته أسفل منتصف رأس ضحيته. أما الثالث فقصفته طائرة بدون طيّار. وما زلت إلى الآن أتساءل، لو كانت طائرة مع طيّار، هل كان الطيّار سيعرف أن ضحيته لا يتجاوز عمره الـ12 عاماً؟
الموت في ديارنا كان للعجائز فقط وكان حدثاً عظيماً أن يموت أي إنسان… ولكن منذ 6 أعوام، أصبح الموت عادة يومية
3 إخوة؟ كيف؟ ومتى؟ لا أدري. المهم أنني أتذكر فقط أنني خلال عامين، تلقيت ثلاثة اتصالات على هذا الهاتف اللعين تقول إن أخاك مات
وفي الجهة الجنوبية، طاولة وكرسي خشب. فوق الطاولة عدة الكتابة، لابتوب، دفتر وعدة أقلام، كلها مثلي، أيضاً منشغلة بسيرة الحرب. فلا أذكر منذ سنوات أنني أقدمت على كتابة قصيدة أو مقالة، تخلو من رائحة الجثث، أو سيرة المقابر، وهذا طبعاً تصرف لا إرادي. أما الجهة الشرقية، فهي فارغة تماماً، لا بد من فراغ في الغرفة، لأحدق فيه وأحصي حجم الخسارة الفادحة، لأن سرير النوم يقع في الجهة المقابلة للفراغ، الجهة الغربية التي لطالما عشت فيها أوج حالات الأرق فوق ذلك السرير القديم، الذي يأخذ شكل دبابة عاطلة عن العمل. ولدي نافذة صغيرة، لم أسدها بشيء، تظل مفتوحة طوال الوقت، وتشبه كثيراً تلك النوافذ أو كما يسمونها "الطلّاقيات"، التي يفتحها الجنود من جدار إلى جدار، ينخرون جسد المدينة، ليربحوا المعركة. لكنني، بالرغم من أنني فتحتها منذ اليوم الأول، أرى أنني كل يوم أفتتح معركة اليأس وأخسرها طبعاً. ربما لأنني أقاتل خصوماً لا يمكن رؤيتهم بالعين المجردة. تطل النافذة مباشرة على مقهى صغير، يعمل فيه شاب من مدينة الرقة، كل يوم صباحاً أنزل إليه ليصنع لي "اسبرسو مُرّة"، أسأله دائماً عن الأوضاع في مدينته، فيجيب الإجابة نفسها: "على الله". ذلك النحيل، والحزين مثلي، بات يقرأ الموت في كل تفاصيل حياته، فلم يعد يرى داعياً للشرح الطويل، فيكرر "على الله"، حتى أنني بت أشعر بطعم الموت في القهوة التي يبيعها، وفي صمته وسمرته وعروق شرايينه الواضحة على جبهته، وأشعر أنني كل ما رميت الفنجان من يدي، ترتمي هناك قذيفة أو صاروخ. هكذا منذ 6 أعوام إلى الآن. أصبح الموت عادةً يومية.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image