لا أدري كيف طعم الوقت خلف القضبان، وبالذات لو كان السجين شاعراً مسجوناً لمجرد أنه كتب الشعر؟ لا أدري أيضاً ما السر في الشعر، الذي أدى لانتزاع حريتك منك؟ ولا أدري بالتحديد، ما الذي في الشعر، الذي يؤدي إلى الحكم بالإعدام؟
كل تلك الأسئلة دفعتني إلى قراءة قصائدك حتى أجد أجوبة. وفي الشهور المقبلة، سأقرأ قصائدك وسأكون سعيدة لسماعي أنه تم تخفيف حكم الإعدام عنك، بعد اتهامك بالإلحاد والحكم عليك بالسجن 8 سنوات. مع هذا، لا يزال بانتظارك عقاب مريع، لا شك أنه يدمي روحك الشاعرة.
أشرف، الآن أدري ما السر في شعرك الذي أربك السلطات الثقافية والمجتمعية والمؤسساتية. السر هو الصدق الذي ليس له مكان في عالمنا الزاخر بالنفاق والكذب والادعاء.
أدركتُ ذلك في رحلة أجريتها أخيراً. كنت في دبي في الشهر الماضي، إذ تلقيتُ دعوة لحضور حفل ضخم لإطلاق قناة إعلامية مهمة. خلال الحفل، كانت لي لقاءات مع مشاهير سعوديين وسعوديات على السوشال ميديا. مشاهير يتمتعون بملايين من المتابعين على تويتر وفيسبوك ويوتيوب، ما يجعلهم ذوي تأثير ونفوذ كبيرين. بعيداً عن الكاميرات والإضاءة والادعاء، التقيت بهم شخصياً. حاولت أن أكون صادقة كما تفعل في شعرك يا أشرف. ومن دون تردد سألتهم: "أتدرون أن السعودية تقصف أبناء بلدي؟ (وكأنهم لا يدرون)، هل أنتم مع القتل؟ هل تدعمون الحروب؟". وفي اللحظة نفسها، أتوا جميعاً بالجواب نفسه: من الذي مع القتل! بالطبع نحن ضد الحروب.
ثم سألت: "إذاً لماذا لا تستنكرون ما يجري؟"، فأجابوا: "سجوننا ممتلئة، تعرفين ذلك".
هكذا، الآن أدري ما السر في شعرك يا أشرف.
يبدو أن الجميع يرتعد خوفاً أمام السلطات، حتى أبناء وبنات أرض أم القرى، الأمر الذي يدفعني للتساؤل: من أين لك كل هذه الشجاعة يا أشرف، وأنت شخص مهاجر في السعودية لأبوين لاجئين فلسطينيين؟ من أين جئت بكل هذه الشجاعة لتحدي السلطة الثقافية والاجتماعية والمؤسساتية؟ كيف أقدمت على ما يهابه الكثيرون؟ يبدو أن الجميع خاسر في الحرب ضد جبروت السلطات. وعليه فأنت، كموطني اليمن، ستعاني ما يجب عليك أن تعانيه ما دام القوي باستطاعته أن يفعل ما يشاء، على حد تعبير ثوسيديديس.
“لايغركم الإبداع الذي لا يقتحم المساحات المحظورة بكل لياقة وصدق. لا يغركم الإبداع المتحالف مع الرقابة الذاتية". كنت أريد ان أردد ذلك على مسامع أصدقائي اليمنيين، وكل متابعي هؤلاء المشاهير، حتى أنشر حقيقة الإبداع الزائف في مجتمعاتنا. ثم أدركت أنني أنا أيضاً مذنبة بخطيئة الرقابة الذاتية، مثلي مثل الجميع.
مهلك عليّ يا أشرف، لا تُطلق عليّ الأحكام، الجميع يدركون أنه من الأرخص أن تقمع خيالك وأفكارك الأدبية، وأنه من المُكلف أن تكون مقداماً وصادقاً في التعبير عن كيانك الإبداعي. مُكلف لدرجة أن حياتك ستكون على المحك. شعرك الصادق هو البرهان يا أشرف. صديقنا أحمد ناجي هو أيضاً برهان آخر. فأنتما الاثنان، بين العديد من الأدباء الشبان المسجونين، كانت لديكما شجاعة التعبير من دون رتوش أو أكاذيب، وسط مجتمعات محكومة بهوس الادعاء. ببساطة، الرقابة الذاتية لم تكن ضمن قاموس خيالكما وأعمالكما الفنية، فكان لا بد من أن تقولا الحقيقة. ويا لها من نتيجة مُكلفة!
هكذا، الآن أدري ما السر في شعرك الذي أربك السلطات.
الجرأة وعدم كبتك في التعبير عن إبداعك كانا مهمين، بمثابة الأوكسجين بالنسبة إليك. أشرف، كنت تتنفس في حريتك من خلال التعبير عن أفكارك بكل صدق. لم تنخدع بحريتنا الزائفة التي تجعلنا نُفكر مرتين قبل أن نتفوه بأي أمر، والتي تتلبسها الرقابة الذاتية حتى أخمص رجليها، والتي ندعي فيها أننا بشر أحرار من دون قيود.
قد يحدث أن يكون حبسك صفعة في وجه الحرية الزائفة والأكاذيب في عالمنا الإبداعي. وما دمت خلف القضبان، وكلفة التعبير بحرية ودون قيود كلفة خيالية، حبسك (وحبس ناجي أيضاً)، هو قيد في معصمنا نحن من نزعم أننا أحرار. قالت Gloria E. Anzaldúa ذات مرة أنها تكتب لأنها تخاف من الكتابة، ولكنها تخاف أكثر من أن لا تكتب. لهذا كانت تكتب.
هكذا أدري الآن ما السر في شعرك الذي أربك السلطات. فأنت أيضاً كغلوريا، كنت خائفاً من أن لا تكتب أكثر من أي شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...