المشهد الأوّل: خلف السّتارة
أثاثٌ متواضع، كابلات كهرباءٍ وستالايت ترسم خطوط تماسٍ بين السّجادة والحائط، إبريق شايٍ وكوبٌ احتلا الطّاولة إلى جانب جهاز التّحكم الخاص بالتّلفاز. أنهى تناول طعام العشاء، ترك صحنه على الطّاولة وجلس يشاهد التّلفاز، لا برنامج محدّد، ضجيجٌ بلا معنى وإمرارٌ للوقت. فرغت من الجلي وجلست إلى جانبه، حاولت شدّ انتباهه لكن عبثاً، التّلفاز هزمها، استجمعت شجاعتها، أخذت نفساً عميقاً وعبّرت عن رغبتها بالحصول على سُترةٍ جديدةٍ غير التي اشترتها في العام الماضي. نجحت في لفت انتباهه، رفع صوت التّلفاز، تنبّهت هي للقادم من ردّة فعله، حاولت التّراجع عن رغبتها والتّفاوض، لكن شتائمه سبقت تراجعها. ذكّرها أنّها عديمةٌ القيمة. شتم عائلتها. حقّرها مع أنّ تحصيلها العلمي يفوق تحصيله. ارتضت أن تلازم المنزل وتبتعد عن سوق العمل بعد الزّواج احتراماً لرغبته، ونذرت ما تعلّمت وشهادتها لتعليم أولادها. علا صراخهما والأولاد يتفرّجون على معارك أمست روتيناً يومياً، قبل أن تُختتم الليلةٌ بصفعةٍ على وجهها ودفعةٍ أسقطتها على الأرض وأسقطت حلمها البسيط معها، بينما الجيران يتساءلون عن سرّ صوت التّلفاز المزعج، لا يعلمون ان الصّوت ستارةٌ وسترٌ ل "أسرار البيوت".المشهد الثّاني: غرفةُ الألعاب
تبدّل ثياب لعبتها الصّغيرة، بينما تنتظر الطّعام الذي تمثّل انّها تقوم بطهوه، تراقص لعبة "الباربي" وترتّب الأثاث البلاستيكي في البيت الزّهري، كان هدية عيد ميلادها العاشر. الجو صيفي وهي في عطلة، لا واجباتٍ دراسية، باب غرفتها مغلق، امّها مشغولةٌ بإعداد الطّعام، يمرّ النّهار بشكلٍ عادي، إلى أن يفتح أبوها باب غرفتها، معه صديقه، ينظر إليها الرّجلان ويبتسمان، لم تكترث لهما وعادت لتُبلس لعبتها ثياب العرس. مرّ أسبوع، عطلتها المدرسيةُ انتهت باكراً، ستنتقلُ من منزلٍ إلى آخر، بلا لعبتها، ثياب العرس أصبحت ثيابها، لبست هي فستان العرس، تنتظر حولها مستغربة، المدعوون يهنّؤون والدها وصديقه، زوجها الحالي، هي لا تفقه شيئاً مما يجري، مكانها الطّبيعي غرفةُ ألعابها، لا بيت الزّوجية، كيف لطفلةٍ ان تربّي أطفالاً؟ لم تدم أسئلتها طويلاً، اختتمت القصّة بعد قضائها ليلتها الأولى مع زوجها، هذه المرّة، لم تلبس هي الأبيض، ألبست إياه في الصّباح التّالي، وانتقلت من منزل زوجها...إلى مكانٍ آخر.المشهد الثّالث: في سيارة الأجرة، في الشّارع وفي المصعد
تمشي مسرعةً للحاق بعملها، تجول في رأسها العديد من الأفكار، كيف ستسدّد قروضها؟ هل من الممكن لها أن تواصل تحصيلها العلمي؟ هل هو جادٌّ في التّقرب منها؟ ماذا لو رفض أهلها؟ تواصل الهرولة، قبل أن يطرق سمعها عباراتٌ تلازمها يوميا، "شو يا حلو؟"، "وين رايح القشطة؟"، يجري خلفها صاحب الصّوت، ويحاول الحصول على رقم هاتفها، يمرّ النّاس من دون أن يكترثوا لها، تطلب النّجدة، ترفع صوتها، لم يتدخّل أحد، أسعفها الحظّ ووصلت للمكان الذي قصدته. تضع السّماعات في أذنيها، جلست في المقعد الخلفي للسيارة بعد نهارٍ شاق، لم ترغب بسماع أي أحاديث، فقط بعض الموسيقى، عدّل السّائق مرآته، عيونه تحدّق فيها مباشرةً ويبتسم، ابتسمت له ابتسامة عابرة، ظنّت أنّه يحاول نسيان زحمة السّير، تصرّفت بلطافة، لكنه فهم العكس، ابتسم مجدّداً وبدأ ينزل المرآة كي تعكس صدرها وجسدها، سارعت إلى الخروج من السّيارة، وأكملت طريقها مشياً. في المصعد، حاول جارها التّحدث معها، لا مشكلة، تغزّل بجمالها، بسيطة فهو جارها منذ عشرة أعوام، وصديق العائلة، حاول اختصار المسافة القليلة التي تفصلهما في المصعد حتّى احتك جسده بجسدها، عندها، رمقته بنظرة احتقار وغادرت المصعد إلى منزلها. لم تُخبر أحداً بما جرى، أصبح الامر معتاداً، وتحاول قدر الإمكان مقاومته وتجنّبه، تمشي "الحيط الحيط وبتقول يا ربّ السّترة".المشهد الرّابع: المجرم العريس
لم يكن عرسها عادياً، لا يمكن تسميته بالعرس أصلاً، كان مأتماً لحرّيتها وفصلاً اخيراً من فصول الجريمة، أٌجبرت على الزّواج به ستراً للفضيحة، المجتمع الصّغير في الضّيعة يشير إليها بالبنان، لا ذنب لها، لم تفعل أي شيءٍ يجعل منها مذنبة، هو فعل، هدّدها وأجبرها على ممارسة الجنس معه، أي اغتصبها، وبدمٍ بارد، يعي انّه ذو نفوذٍ وأنّها ضعيفة، يعرف جيّداً ان المجتمع سيحميه ولو أنّه ظلم. لا يريد الزّواج منها، لكنّه تزوّجها، كصيغة تسويةٍ بينه وبين المجتمع، تمهيداً لكسب غطاءٍ مستقبلي لأي جريمة شبيهة، فالقانون يحميه، ويفرض على المُغتَصب تزوّج الضّحية المُغتَصَبة، أي يشرّع القانون للجاني إعادة تمثيل جنايته يومياً في معظم البلدان، تحت شعار الشّرف، وستر الفضائح، وهي، إمّا ترضى وإمّا...تنتحر.المشهد الأخير؟
تموت نساءٌ يومياً، وتبكي أخريات، تُعنّف العديدات، قصَصٌ تُكتب خلف جدران المنازل والشُّقق، تصنّف أنّها أسرار. جرائم شرفٍ ترتكب، فيقتل الأخ أخته، أو الأب ابنته، أو الزّوج زوجته، وتُغلق القضية، يُرمى الملف في جارور القاضي، كأي ملفٍ آخر. تُزّوّج قاصراتٌ بغطاءٍ ديني، تنتهي حيواتهنّ ويكبرنّ بسرعة، غالباً ما يكنّ عرضةً للزواج السّياحي، في اليمن على سبيل المثال، منهنّ من يبرز، كنجود، ملهمة القاصرات الثّائرة على واقعها، ومنهنّ من تُقتل في ليلة دُخلة الوحش عليها. في يومياتنا مشاهدُ كثيرة، يُترك للمجتمع كتابةُ نهايتها، وتتراوح النّهاية بين جريمة أو ثورة، بين تقدّمٍ او تخلّف، بين تحضّرٍ أو رجعية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 22 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري