أول عرض سينمائي في مصر حصل في قهوة زواني بالإسكندرية في يناير 1896، أي بعد عام من العرض السينمائي الأول في العالم عام 1895. ازدهرت السينما سريعاً في مصر، ووصلت إلى ذروتها ما بين الثلاثينيات والستينات من حيث ضخامة الإنتاج وعدد العاملين في المجال. نمت فنون وحرف عديدة ارتبطت بتلك الصناعة، وعلى رأسها حرفة رسم الأفيش (الملصق السينمائي).
قاد هذا الفن مصممون ورسامون اشتهر بعضهم وحصدوا الجوائز، في حين ظل الكثيرون بينهم مغمورين ولم يحققوا أي شهرة لإرتباطهم بسينما وجمهور الترسو (سينما الدرجة الثالثة). لكن مع التطور التكنولوجي للتصميم والطباعة تغيّرت المهنة. اختفى الرسامون من المشهد وبقيت آفيشاتهم في ذاكرة الشوارع وواجهات السينمات القديمة والجمهور.
أفيش الترسو
بعد تاريخ حافل لسنيما الترسو، لم يتبق في مدينة القاهرة سوى سينما واحدة منها هي “سينما الكورسال” في بولاق أبو العلا، الشهيرة بسينما علي بابا. تصنف اليوم على أنها سينما من الدرجة الثانية، وهي الوحيدة التي تلصق على واجهتها أفيشات مرسومة يدوياً حتى الآن.
بقيت سينمات الترسو بأفيشاتها ذات الألوان الفاقعة والرسم المبتذل تنتشر في الأحياء الشعبية بالقاهرة حتى نهاية التسعينيات. تبرز خطوط أفيشاتها وألوانها الملامح الأنثوية المبالغ فيها لبطلات الأفلام كـ“ليلى علوي“ و“نادية الجندي“، وملامح القوة للأبطال أمثال “سلفستر ستالون“ و“أرنولد شوارزينجر“. تنقل لقطات مشحونة بالمتعة والإثارة لجذب الجمهور، والعناوين المكتوبة عليها لا تخلو أحياناً من الأخطاء. حتى عناوين الأفلام والكتابات على الأفيشات لم تكن تخلو من الأخطاء الإملائية. أمام هذه السينمات كان يتزاحم جمهور من طلبة ومراهقين و”صنايعية” للاستمتاع بعرض متصل يضم ثلاثة أو أربعة أفلام بسعر زهيد في متناول أياديهم.
في منطقة وسط البلد بالقاهرة، كانت تقع إحدى أهم ورش أفيشات السينما في المدينة، ورشة الخطاط “علي جابر”. في هذه الورشة تربى “صلاح السيد”، الذي عمل في هذه الحرفة مدّة ثلاثين عاماً، رسم خلالها أفيشات لسينما الكورسال و”سينما أولومبيا” و”سينما مصر”. بدأ صلاح السيد حياته في عالم رسم أفيش السينما منذ كان صبياً يغسل فراشي الرسم في ورشة الخطاط علي جابر. تعلم هناك طرائق رسم الأفيش خطوة خطوة، وكيفية تكبير الصورة عن طريق رسم التصميم على لوح زجاجي بخطوط سوداء، ثم وضع مصباح خلف اللوح لتنعكس الصورة كبيرةً على الورق، فيحددها بقلم الفحم.
كثيراً ما رسم “صلاح السيد” في ورشة علي جابر “جاكي شان“ و“بروس لي“ و“إلهام شاهين“. انتقل بعد ذلك للعمل في مطابع السينما العربية مع ورشة “حسن جسور” التي كانت تعدّ من أشهر ورش الأفيشات في مصر والتي أغلقت أبوابها بعد وفاته في التسعينيات. لا تزال لافتاتها ذات اللون الأزرق الزاهي تنتصب اليوم أمام مقهى “أم كلثوم” بشارع عرابي في وسط المدينة.
يقول صلاح أن الأفيشات هي من نوعين: “درجة أولى ودرجة ثانية”. أفيش الدرجة الأولى هو الأفيش المصمم للفيلم من قبل الشركة المنتجة له وعليه توقيع الفنان صاحب التصميم أو اسم الورشة والمطبعة. أما أفيش الدرجة الثانية فغالباً ما يكون غير دقيق ويكون أكثر رداءة في التنفيذ في سينمات الترسو عنه في سنيمات الدرجة الثانية، ومن النادر أن يحمل توقيع الفنان.
وكما كان لسينما الترسو ملوكها، كان لأفيشات السينما ملوكها أيضاً مثل “خميس الثغر” الذي ارتبط ذكره بمعاقرة الحشيش، و”مفتاح” الذي كان يرسم الأفيش مباشرة على واجهة السينما، واشتهر برسم أفيشات الفنانين الذين يعملون في كباريهات شارع الهرم.
مع اختفاء سينمايات الترسو وسينما الدرجة الثانية اختفى الأفيش المرسوم باليد وأصبح إيجاده نادراً. ارتفعت أسعار تلك المتبقية والممهورة بأسماء أشهر فناني الأفيش حتى تجاوز سعر بعضها الـ15 ألف دولار. اتجه من تبقى من رسامي الأفيش إلى حرف أخرى، ومنهم “سامي حِنس” و”مجدي ويليام” اللذان اتجها إلى رسم الأيقونات في الكنائس وابتعدا تماماً عن عالم السينما برمته. أما صلاح السياد، رسام سينما الكورسال، فاتجه من جهته إلى رسم المناظر الطبيعية وبيعها.
أفيش درجة أولى
“سامح فتحي” هو ناقد سنيمائي من هواة شراء الأفيشات القديمة. يمتلك اليوم مجموعة مكونة من 1500 أفيش بطبعتها الأولى موقعة من راسميها، لأفلام أنتجت على امتداد تاريخ السنيما المصرية منذ الثلاثينات. في نوفمبر 2013، أقام معرضاً لمجموعته الخاصة من أفيشات السنيما في هنجار دار الأوبرا. حصل على هذه المجموع عبر البحث على موقع المزادات الأكبر في العالم "إيباي"، كما اشترى بعض الأفيشات من شركات إنتاج قديمة.
يطمح سامح فتحي في تأسيس متحف لأفيشات السينما المصرية يحفظ هذا التراث الذي يروي لقطات من تاريخها. هو يعرف الكثير عن تاريخ هذه الصنعة في مصر. يقول: “اليونانيين هم من علموا المصريين فن الأفيش وكان راغب ومحمد عبدالعزيز وكمال عبد الرحمن من أوائل رسامي الافيش في مصر”. اشتهر كذلك الرسام اليوناني الجنسية “فاسيليو” في الأربعينيات واستمر في رسم الأفيش حتى أوائل الستينيات وتخصص في رسم أفيشات أفلام فاتن حمامة.
يعدّ “مرتضى أنيس” من أشهر مصممي ورسامي أفيشات الدرجة الأولى، وقد دخل هذا العالم في السبعنيات أثناء عمله كرسام بورتريه في جريدة الأهرام. أول فيلم عمل عليه كان “رجب فوق صفيح ساخن”، ثم دخل بعدها إلى عالم فانتازيا المخرج “رأفت الميهي”، وهذا ما ساعده على الخروج من قالب أفيش السينما التقليدي إلى التجديد. بدأ بفيلم “الأفوكاتو” ليصاحب رأفت الميهي في رحلته السينمائية ويحصد معه عدد من جوائز أفضل تصميم أفيش سينمائي كان أولها لفيلم “السادة الرجال”.
لم يؤثر دخول الجرافيك على أنيس كمصمم أفيش، وفي تحدٍّ للأجيال الشابة من مصممي الأفيشات الذين استخدام التكنولوجيا الحديثة، صمم على إكمال تجربة الرسم في أفيش “التجربة الدنماركية” لعادل إمام عام 2003. لكن سرعان ما اعتزل هذا الفن تماماً في 2007، بعد أن صمم ما يقرب من 400 أفيش أفلام سينمائية.
يتحدث أنيس عن تجربته في رسم الأفيش: "كنت أقرأ سيناريو الفيلم أولاً وأحياناً كنت أحضر التصوير وبعد أن آخذ وقتي في التفكير أبدأ بتصميمه". لا يحمل صورة جيدة عن رسامي أفيشات سينما الترسو معتبراً أنهم “أنصاف فنانين”. بعكسه، يتحدث “عمر الفيومي” (فنان تشكيلي) بإعجاب عن “مفتاح” الذي كان يرسم الأفيش على واجهة السينما مباشرة بدون المرور بمرحلة التكبير عن طريق الزجاج والمصباح. يأسف الفيومي لكون هذا العالم قد اختفى من خارطة التقييم والدراسة كفن شعبي له مساحته الخاصة في وجدان أبناء الأحياء الشعبية. عمل الفيومي مع "حسن جسور" في ورشة مطابع السينما العربية بعد تخرجه مباشرة من كلية الفنون الجميلة ورسم أفيشات أفلام “العذراء والشعر الابيض” و”ثلاثة على الطريق”، كما صمم أفيش فيلم “المجهول” بطولة عادل أدهم وسناء جميل. كانت تلك الفترة محطة قصيرة في تاريخ عمر الفيومي الذي لم ينجذب إلى عالم الأفيش وفضل التفرغ للفن التشكيلي.
نهاية عالم
ومع أواخر التسعينيات شقت سينما المجمعات التجارية طريقها في مصر بجانب سينمات الدرجة الأولى والثانية، وصاحب ذلك اختفاء سينما الترسو التي تم استبدالها بمقاهي الأحياء الشعبية التي تعرض أفلام الإثارة ومباريات كرة القدم والمصارعة حرة عبر القنوات الفضائية مقابل مبالغ زهيدة.
لم تنتج تلك المقاهي عالماً بديلا له زخم سينما الترسو برسّاميه وأفلامه وجمهوره. منحتهم تلك السينمات المتهالكة بأجهزة عرضها وكراسيها ودورات مياهها التي تفوح رائحتها، جواً خاصاً مغلقاً على عالمهم، يصفقون فيه للبطل الذي يحقق طموحاتهم ويتفاعلون فيه مع اللقطات الساخنة التي تخصب أحلامهم اليافعة. فمع تصاعد سخونة المشاهد، كان يتعالى الصفير في الصالات، وكثيراً ما كان يقفز عدد من الفتيان إلى الشاشة لتقبيل البطلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...