حين قامت الثورة المصرية، اندلعت اشتباكات أمام مديرية أمن الشرقية (في دلتا مصر). حينذاك لاذ عناصر الأمن بمبناهم الحصين، وتحلق الشباب الثائر حوله وحاصره وحاول اقتحامه. اليوم يتكرر المشهد في المكان نفسه. ولكن تبدلت الأدوار، فأمناء الشرطة هم من يحاصرونه. حالياً يشعل أمناء الشرطة "ثورة" في مصر تطالب بالعدالة الاجتماعية. سبحان مغيّر الأحوال.
مَن هم أمناء الشرطة؟
عام 1967، وفي عز إحكام القبضة الأمنية يدها على مصر، قرّر شعراوي جمعة، وزير الداخلية حينذاك، إنشاء "معهد أمناء الشرطة". نشأ المشروع لأن عدد الضباط لم يكن كافياً للقيام بكل المهمات الأمنية، وفي الوقت نفسه، لم يكن ممكناً الاعتماد على الخفر والجنود. من هنا استُحدثت فئة وسطى بين الشريحتين الأساسيتين في جهاز الشرطة (الضابط والجندي)، فعرفت مصر وظيفة "أمين شرطة".
وعام 1970، تخرجت أول دفعة "أمناء شرطة" من المعهد. في البدء، رحّب بهم الشارع حتى أن سعاد حسني ذكرتهم في إحدى أشهر أغانيها (يا واد يا ثقيل) بطريقة تعبّر عن أهميتهم. لكن مع الوقت ظهر مأزقهم الطبقي. فالشعب يحترم البدلة الميري فقط، ولذلك سيطر عليهم الشعور بالظلم. فمن ناحية يعتبرون أنهم مَن يقوم بكل العمل في الشارع، إلا أن الاحترام والتبجيل حكر على الضباط. كما أن اشتهار كثير منهم بالرشوة أبعد الناس عنهم وصاروا رمزاً للفساد.
الثورة علّمت قامعيها الاعتراض
المدهش أن ثورة يناير التي قامت في الأساس ضد ممارسات رجال الشرطة القمعية، كانت هي السبب في فتح الباب أمام أمناء الشرطة للمطالبة بـ"حقوقهم". فالثورة هي التي عرّفتهم إلى فكرة التظاهر، للمطالبة بالحقوق بل علّمتهم محاصرة مقارّ الداخلية.
مقالات أخرى
في ذكرى واقعة رابعة العدوية: أبرز مجازر قوات الأمن المصرية
الشرطيات في مصر: هل هن قادرات على مواجهة التحرش؟
ولدى الإطاحة بحبيب العادلي، وزير الداخلية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك في يناير 2011، وتولّي محمود وجدي المنصب، تظاهر أمناء الشرطة المفصولون مطالبين بعودتهم إلى العمل، وقد أسفرت تلك التظاهرات عن عودة نحو 300 منهم إلى الخدمة. وما إن تولى منصور العيسوي الوزارة في مارس 2011 خلفاً لوجدي حتى دخل أمناء الشرطة على مستوى الجمهورية في إضراب مفتوح عن العمل للمطالبة بزيادة رواتبهم.
وفي أكتوبر 2011، حاصر الآلاف منهم مقر وزارة الداخلية نفسه، مطالبين بإقالة الوزير الذي لم يستجب لمطالبهم. وفي مايو 2012 وأثناء حصول الإخوان على الغالبية في البرلمان، ومع تمدد الشعور بأن مصر مقبلة على "عصر إسلامي"، تجددت تظاهرات أمناء الشرطة.
لكن هذة المرة ظهر مطلب جديد هو الحق في إطلاق اللحى اقتداء بسنة رسول الله. وحينذاك، التقى القيادي الإخواني سعد الكتاتني (رئيس البرلمان وقتها)، ممثليين لائتلاف أمناء الشرطة، وصرّح أن "مطالبهم مشروعة". كذلك، أثمرت تظاهراتهم عن إلغاء المحاكمات العسكرية لهم، واعتبارهم موظفين مدنيين.
وبعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، خفتت لغة الإضرابات والتظاهرات الفئوية بشكل عام في مصر. لكنها عادت أخيراً إلى الظهور عن طريق موظفي الضرائب، واليوم تعود إلى الداخلية عن طريق "أمناء الشرطة"، وبشكل أعنف من السابق.
ثورة الأمناء الجديدة
وبدأت موجة احتجاجات أمناء الشرطة الجديدة أو "ثورة الأمناء"، كما يفضلون هم تسميتها، في "محافظة الشرقية"، ثم انتقلت إلى محافظات مختلفة. والمطالب الحالية لا تختلف كثيراً عن المطالب السابقة: زيادة المرتبات والحوافز، ومطالب خاصة بالسكن والعلاج. وهذه المرة يوجد مطلب غريب هو رغبتهم في الحصول على حوافز وأرباح من قناة السويس الجديدة.
شماتة الناس بهم
واللافت في اعتصامات أمناء الشرطة أن كل المجتمع تقريباً يقف ضدهم. الجرائد المصرية اتهمتهم بالطمع والجشع، ورفع صحافيون من حدة الاتهامات ليصفوهم بعملاء الإخوان المسلمين. أما الإخوان المسلمون، فصفحاتهم وتعليقات مؤيديهم تميّزت بالشماتة والتشفي بهم، وذكّرتهم بأياديهم الملطخة بدماء الإخوان في رابعة العدوية.
نظرة سريعة على صفحة ثورة أمناء التي دشنها أمناء الشرطة لتعبر عن مطالبهم، تكفي للتعرّف إلى موقف الناشطين والجمهور العادي من مطالبهم. فغالبية التعليقات تقول: أنتم لصوص أو أنتم قتلة.
"مطالبهم غير منطقية ولا استبعد أن تكون هناك انتماءات فكرية أو سياسية لهؤلاء المعتصمين"، قال اللواء ماجد نوح، مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن المركزي السابق. وفي حديث تلفزيوني، اعتبر أن إلغاء قانون المحاكمات العسكرية لأمناء الشرطة، الذي تم على يد ما سماه "مجلس الشعب الإخواني"، هو المسؤول عن انفلات أمناء الشرطة اليوم، وأضاف: "خلاص ما بقتش تعرف تحاسبهم".
ربما لم يتعاطف مع أمناء الشرطة سوى بعض الحقوقيين، ما ظهر جلياً في موقف ناصر أمين، المحامي وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان. "طبعاً من حقهم"، قال. وأضاف: "الشرطة هي جهة مدنية ومن حق العاملين فيها التعبيرعن مطالبهم، بل التظاهر والاعتصام من دون التعرض لهم أو التنكيل بهم، وأي اعتداء عليهم هو اعتداء على حرية المواطن، أياً كانت وظيفته وموقعه".
الموقف الرسمي من تحركاتهم
علماً أن وزارة الداخلية ترغب في احتواء الموقف وتجنّب الصدام معهم. وظهر ذلك جلياً في رفضها تطبيق قانون التظاهر على تحركاتهم، وهو ما برّره اللواء أبو بكر عبد الكريم، مساعد وزير الداخلية لشؤون الإعلام، بقوله "إن الاعتصام لم يكن تظاهرة ولكن وقفة احتجاجية".
وقد أثار وصف حصار مديرية الأمن بأنه وقفة احتجاجية، الكثير من التعليقات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعد ثلاثة أيام من اشتعال الأزمة، أصدرت وزارة الداخلية بياناً مقتضباً أعلنت فيه أن وزير الداخلية مهتم بتوفير سبل الرعاية الصحية والاجتماعية لأفراد الشرطة، وأكدت على ثقة الوزير بأداء الأجهزة الأمنية المختلفة. لكن البيان لم يتحدث عن خطط أو إجراءات محددة لحل الأزمة. والمفارقة أن منصور أبو جبل، المتحدث باسم ائتلاف أمناء الشرطة، ومجموعة من زملائه في الاعتصام، اشتكوا إلى وسائل الإعلام من أن الشرطة اعتدت عليهم بالرصاص الحي والغازات المسيّلة للدموع.
ماذا بعد؟
ورأت أستاذة علم الاجتماع الدكتورة هدى فراج، أن "ثورة يناير حركت الماء الراكد، ومطالب الفئات المختلفة ستظهر تباعاً، ما دامت لا تلوح في الأفق أي بوادر لحل الأزمات". وأضافت لرصيف22، أن "خفوت صوت الإضرابات في العامين الماضيين، كان سببه القلق من ردّ فعل الدولة، خصوصاً بعد كم العنف الذي مورس في فض اعتصام رابعة العدوية، لكن إذا استمرت الأحوال بهذا السوء فستظهر مجدداً اعتصامات واضطرابات".
أحد ضباط الشرطة (رفض ذكر اسمه) له تفسير آخر. قال لرصيف22: "القصة لا تعدو كونها صراعاً داخلياً، فهناك مجموعة من الضباط الفاسدين، الذين تمت الإطاحة بهم ويحاولون إحراج الوزير،عن طريق دفع الأمناء للتظاهر".
أياً كانت الأسباب، وأياً كان موقف كل فريق من أمناء الشرطة ومن اعتصامهم، فالمؤكد أن هذه الموجة ستشجع فئات أخرى من المجتمع على النزول إلى الشارع مرة أخرى، والمطالبة بحقوقهم، وهو ما يراه البعض المكسب الأهم من ثورة الأمناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...