يجمع العاملون في صناعة الكتاب ونقاد الأدب على أن السنوات الأخيرة تشهد نمواً وترسخاً لنمط من الأدب الشعبي الجديد، الذي بات يعرف الآن بالروايات الأعلى مبيعاً.
سواء في المكتبات أو محطات البنزين أو في المجمعات التجارية أو السوبرماركت، من الكويت حتى المغرب، نجد هذا الرف الذي يحمل الكتب الأكثر مبيعاً، تجاور كتب الطبخ والتنمية البشرية. روايات بعناوين وأسماء لها شعبية طاغية، ومع ذلك يهمشها النقد الأدبي، أو في أحسن الأحوال يعلق النقاد على الظاهرة بأن لها وجهاً إيجابياً، لناحية جذب قراء جدد إلى عالم الكتاب.
لن نجد كتاب الروايات الأعلى مبيعاً في قوائم الجوائز الأدبية، ولن نجد اعترافاً رسمياً بهم، أو حتى دراسات تتعامل مع ما يقدمونه كأدب شعبي ترسخ في أجناس معروفة، كالرواية البوليسية أو الرومانسية.
هذه الظاهرة، التي يعتقد البعض أنها جديدة، ترى د.سماح سليم أستاذ الأدب العربي في دراستها "وسائل تسلية الشعب: الترجمة والرواية الشعبية والنهضة في مصر"، والمنشورة في كتاب "عصور نهضة أخرى: مدخل جديد إلى الأدب العالمي"، أنها "ليست ظاهرة جديدة إطلاقاً، بل الأصل الذي انبثق عنه ما نطلق عليه الأدب العربي الحديث".
في البدء كان الأدب الشعبي
عرف التراث الأدبي العربي أشكالاً متعددة من السرد القصصي، لكن احتاج الأمر لقرون طويلة، حدثت خلالها الثورة الصناعية في الغرب، وما تبعها من نشأة للمدينة المعاصرة، ليظهر فن الرواية الحديثة. ثم احتاج الأمر للقرن التاسع عشر بكل حروبه الاستعمارية على المنطقة العربية، ليلتقي العرب من خلال الترجمة، مع فن الرواية. حققت الرواية كفن، شعبية طاغية، إذ نشرت متسلسلة في الصحف حينذاك، وكانت غالبية الترجمات لروايات فرنسية وانغليزية.
مترجمو القرن التاسع عشر، كما تقول سماح سليم في دراستها، "لم يلتزموا في غالبية الوقت بالنص الأصلي، بل كانت الترجمة تتم عبر سلسلة من عمليات الحذف والتشوية، وأحياناً التعريب، من خلال إعادة سرد الروايات الغربية في بيئة عربية. ونظراً للنجاح التجاري لترجمة الروايات، فقد كان بعض المؤلفين ينشرون أعمالهم بصفتها روايات مترجمة، على الرغم من كونها من بنات خيالهم وأفكارهم".
حظيت الرواية الشعبية بجمهور كبير مع بدايات القرن العشرين، خصوصاً في مصر والشام، نتيجة لارتفاع نسبة التعليم، وظهور طبقة جديدة من سكان المدن المتعلمين. لكن هذه الشعبية قوبلت برفض حاد من مثقفي هذا العصر ومنابره الثقافية. فأحمد فتحي زغلول كتب في عام 1899 عن الحاجة لتدشين ثقافة أدبية منضبطة وسليمة لتحقيق مشروع النهضة، وعزا تخلف مصر إلى الانتشار الواسع للقصص والخرافات وكتب التهريج والروايات. وقبل ذلك بررت مجلة المقتطف رفضها لنشر الروايات، "نظراً لأثارها الأخلاقية الخطيرة على عقول الشباب السريعي التأثر من الجنسين".
رفضت الرواية الشعبية من النخبة المثقفة العربية قبل مئة عام، حين كانت هذه النخبة مشغولة بأسئلة عن الهوية القومية ومواجهة الاستعمار. بينما كانت الروايات الشعبية، كما توضح سماح سليم، "مشغولة بأفكار سياسية واجتماعية، وأشكالها ما بين الرواية البوليسية، والقصص المثيرة، والقصص الرومانسية. ومجال أحداثها في المدن الكبيرة كباريس، لندن، نيويورك، بومباي، القاهرة".
وهو ما نلمحه بوضوح في عناوين الروايات الأكثر مبيعاً في هذه الفترة، كرواية "الأبرياء" (1925) للبيب أبو ستيت، والتي وضع عنواناً فرعياً لها "أدبية غرامية بوليسية". بينما حملت رواية محمد رأفت الجمالي "قوت الفاتنة" عنواناً فرعياً: "تاريخية مصرية نفسية غرامية".
نقولا حداد
أما رواية نقولا حداد "آدم جديد" (1914)، فقد جاءت كميلودراما فلسفية محكمة عن الفساد الاجتماعي والخلاص، تقع أحداثها في أحضان البرجوازية الشامية في القاهرة، في تسعينيات القرن التاسع عشر.
حلقت الروايات الشعبية في ذلك الوقت في فضاء رحب من الخيال عابر للهويات والجنسيات، فرواية نقولا رزق الله "السائلة الحسناء"، تبرز مجموعة غريبة الأطوار من اللصوص والنصابين ذوي الجرأة القادمين من عوالم الرذيلة والجريمة. بينما رواية "مدينة الظلام" لعبد القادر حمزة، والمنشورة عام 1908، تدور أحداثها بين باريس وبونيس آيرس ضد فساد سوق الأسهم العالمية.
الأدب الرفيع بلا سلطة في زمن السوق الحر
واجه مثقفو تلك الفترة انتقادات مُتعددة للروايات الشعبية، ليست أخلاقية فحسب، بل لغوية أيضاً. إذ عمد كتاب الروايات الشعبية استخدام لغة سهلة، تخلط العامية بالفصحى، وتستخدم أحياناً الكثير من الكلمات الأجنبية الشعبية.
توضح سماح سليم في دراستها أن "هذا النقد الموجه إلى الروايات الشعبية، جذوره في الخطاب النقدي الحداثي والقومي، إذ نظر المثقفون الإصلاحيون إلى السرد باعتباره نوعاً من الربط الاجتماعي، يمكن استخدامه لإعداد المصريين من خلال تعليمهم وتحسين الشخصية الجمعية لهم للمواطنة في الدولة/ الأمة الحديثة".
أمام فيض الروايات الشعبية الغزير، حاول كتاب الحداثة مثل محمد حسنين هيكل، ومحمود تيمور، وسلامة موسى أستاذ نجيب محفوظ فيما بعد، تمهيد الأرض على عجل للجنس الأدبي الجديد في بيئة قومية.
تقول سماح سليم: "كان المفهوم النقدي الجديد (الأدب القومي) عنصراً محورياً في تحول جنس الرواية الأدبي إلى معتمد في مصر، سماته وخصائصه الثلاث المميزة هي البيئة والشخصية والزمن. حددت البيئة المصرية والشخصيات المصرية سواء من الحضر والريف بإدراك واسع للتاريخ القومي، باعتبارها المكونات اللازمة للرواية القومية الحقيقية".
لذلك كانت الرواية الواقعية هي الشكل الأول والأساسي الذي ظهرت عليه الروايات القومية، وتمثلت تيمتها الرئيسية، كما تظهر في معظم الروايات العربية حتى الستينات، في أزمة الذات البرجوازية في عالم ممزق في الصراع بين التراث والحداثة.
لعبت هذه النخب الثقافية دوراً مهماً في صوغ الهويات القومية للدول العربية المستقلة حديثاً، ومن ثم استغلت تلك السلطة في كتابة تاريخ الأدب الجديد على نحو يتماشى مع أطروحاتها، وهمشت الروايات الشعبية من التاريخ الأدبي.
لكن الآن مع ظهور الانترنت، وتطور سوق النشر وتوزيع الكتاب، أصبح لقراء الروايات الشعبية المجهولين قبل ذلك، صوت نراه ونسمعه بوضوح على الشبكات الاجتماعية، خصوصاً المخصصة للكتب، كموقع Goodreads، وموقع أبجد. وعليه، أصبحت أصواتهم تهدد السلطة النقدية للأدب، التي لا تجد إلا لجان الجوائز لتحتمي بها محاولة الحفاظ على الرواية الإصلاحية، التي تعبر بواقعية عن المجتمع العربي وتاريخه وهويته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...