شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أن تكون Foodie: قضمةٌ واحدةٌ تشبه النشوة الجنسيّة

أن تكون Foodie: قضمةٌ واحدةٌ تشبه النشوة الجنسيّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 6 مارس 201904:26 م
لا أعرف من أين أبدأ؟ فمن الصعب الحديث عن الأمور التي تعجبكم في الحياة، والتي تحرك حواسكم وتجعلكم تبحرون إلى عالمٍ آخر تنغمسون فيه من رأسكم حتى أخمص قدميكم. بمعزل عن آراء الفلاسفة والمفكرين وبعض "تجّار" الحميات الغذائية وعشاق الجسم المنحوت، أوّد التحدث عن قصة عشقٍ لم تعرفها حكايات ألف ليلةٍ وليلة ولم يأت على ذكرها الشعراء في دواوينهم، عن وقوعي في "غرامٍ" من نوع آخر، يتخطى حدود الأنانيات والمصالح المشتركة والخيانات والطعنات العاطفية، عن حبٍ لا يعرف الكره والأذى، يرتقي فيه المرء للوصول إلى الذروة.

قصة حبّي

بدأت القصة بيني وبينه منذ أن كنت على مقاعد الدراسة، حيث اكتشفت أنني أنتظره بفارغ الصبر، وأختلس الوقت أحياناً حتى ألتقيه وأمضي برفقته أجمل الأوقات، فهو في نهاية المطاف "السند" الذي أتكىء عليه عندما أشعر بالحزن، و"الصديق" الذي أشكي له همومي ومشاكلي والذي يريحني بمجرد أن يكون إلى جانبي، فيقدم نفسه بكليته من دون شروطٍ مسبقة. ولكن قبل الاسترسال في الحديث وقبل أن تذهبوا بأفكاركم بعيداً وتبدأوا برسم "ملامح" هذا الشخص في ذهنكم، سوف أبوح لكم بسرٍّ ربما يفاجئكم: إن الذي أتحدث عنه ليس كائناً ملموساً كما يخال لكم، كما أن العلاقة بيننا لا تشبه العلاقات البشرية المتعارف عليها، بل إنني أحدثكم عن علاقتي بالطعام وشغفي بتذوق الأطباق على اختلاف أنواعها. ففي الواقع، بعدما قررت انهاء علاقتي بالميزان نتيجة "خيبات الأمل" وخذلانه لي في الكثير من المرات، توطدت العلاقة بيني وبين الطعام وتحولت إلى قصة حبٍ لا تنتهي. في البداية، كنت أحاول اخفاء هذه العلاقة الغريبة قدر المستطاع، من باب تجنب الملاحظات الجارحة والآراء القاسية، وتفادياً للأسئلة المحرجة الصادرة عن ألسنة بعض الفضوليين: نصحانة شوي؟ ليش منفوخة؟ في "شي" baby عَ الطريق؟ غير أنني لم أتمكن من كتمان السرّ لوقتٍ طويل، نتيجة "الكيلوغرامات الإضافية" التي "فضحت" هذه العلاقة الغرامية، والشعور بالغبطة الذي يجتاحني كلما تناولت طبقاً لذيذاً، من هنا بدأت قصة حبي للطعام تخرج إلى العلن، وبات أقرب المقربين مني ينادونني بـ Foodie، ويلجؤون إليّ كلما وجدوا أنفسهم عاجزين عن اختيار مطعمٍ معيّن، أو ضاقوا ذرعاً بالأطباق التقليدية وأرادوا توسيع آفاقهم وتجربة مأكولاتٍ جديدةٍ.

إدمان الطعام

في الواقع، لم أكن أعلم أنني "تورطت" في حب الطعام لدرجة "الإدمان". للوهلة الأولى، ظننت أن المسألة مجرد "هواية" بسيطة ألهث من خلالها وراء المطاعم الجديدة والمأكولات المميزة، لحين لاحظت أنني أقضي ساعات وساعات وأنا أشاهد برامج الطبخ على القنوات المحلية والعالمية، وأتابع بشغفٍ جميع الوصفات، مع العلم أنني أجهل إعداد وجبة بسيطة، ولعلّ آثار الحريق التي تحملها "مقلاتي" هي خير دليل على أنني غير موهوبة على الإطلاق في تحضير الطعام. ومن يراقب حسابي على "إنستغرام" يظن أنني طاهية حاصلة على نجمة "ميشلان"، إذ يتفاجىء بالعدد الهائل لصفحات الطبخ التي أتابعها باستمرار: مطبخ شرقي، إيطالي، فرنسي، ياباني...لا فرق عندي فالمهم هو امتاع نظري بصور الأطباق الشهية والتي يسيل لعابي كلما حدّقت إليها. واللافت أنني لست من الأشخاص الذين يكتفون بقراءة تجارب الآخرين مع الطعام، أو أولئك الذين يتوقفون فقط عند مسألة مشاهدة الصور، رافعين شعار "العين تأكل قبل الفم"، فأنا أود تذوق كل شيءٍ بنفسي، حتى وإن تطلب الأمر عناء الذهاب لآخر الدنيا وتحمل مشقات الزحمة والطقس الرديء بغية تذوق منقوشة زعتر من فرنٍ بسيط، أو طبق سوشي طازج معدّ بعناية فائقة، أو "بيتزا" على الحطب مصنوعة بحب وصبر...
بعدما قررت انهاء علاقتي بالميزان نتيجة "خيبات الأمل" وخذلانه لي في الكثير من المرات، توطدت العلاقة بيني وبين الطعام وتحولت إلى قصة حبٍ لا تنتهي.
لست من الأشخاص الذين يكتفون بقراءة تجارب الآخرين مع الطعام، أو أولئك الذين يتوقفون فقط عند مسألة مشاهدة الصور، رافعين شعار "العين تأكل قبل الفم"، فأنا أود تذوق كل شيءٍ بنفسي، حتى وإن تطلب الأمر عناء الذهاب لآخر الدنيا.
لجميع الأشخاص الذين ينصحونني بضرورة إنهاء علاقتي مع الطعام، على اعتبار أنها قد تقودني إلى السمنة وإلى مشاكل صحية أنا بغنى عنها، أجيبهم على طريقة الشاعر الكبير نزار قباني: "وهل يستطيع المتيّم بالعشق أن يستقيلا؟ ما همني إن خرجت من الحب حيّاً وما همني أن خرجت قتيلاً".

فود بورن

لا شك أن سقراط هو فيلسوف حكيم، اشتهر بأقواله الفلسفية وبأقواله العميقة، إلا أنني قد لا أتفق معه في جميع آرائه، خاصة فيما يتعلق بموضوع الطعام. فعلى ما يبدو أن هذا الفيلسوف اليوناني لم يكن من عشاق الطعام على الإطلاق، إذ اعتبر أنه "على المرء أن يأكل ليحيا، لا أن يحيا ليأكل". لست في وارد توجيه سهام النقد إلى ما كتبه عظيم الفلاسفة، ففي نهاية المطاف قد لا يقع اللوم على سقراط نفسه، بل على الزمن الذي عاش فيه والذي كان يعتبر الطعام مجرد حاجة عابرة للبقاء على قيد الحياة، فمن المرجح أنه لو ترعرع في كنف المجتمع الحديث لغيّر رأيه بشأن الطعام خاصة في ظل انتشار ثقافة "الفورد بورن"، والتكنولوجيا التي تجعل من الأطباق "تحف فنية" يحلو للعين أن تتأملها ساعات من دون أن تشبع. وعند الحديث عن حب الطعام، من الضروري توضيح النقطة التالية: أن تكون "Foodie" لا يعني أنك تحب التهام كمياتٍ كبيرةٍ من الطعام لإشباع جوعك، فالأمر لا يتعلق بالطعام نفسه بل بالشعور الذي تشعر به عندما تقع عينك على طبقٍ ما أو بعدما تتناول قضمةٍ واحدة، فتصاب بحالةٍ "سريالية" أشبه بتلك التي تختبرها عند النشوة الجنسية. باختصار أن تكون  عاشقاً للطعام يعني أن تنظر إلى كل وجبةٍ على أنها "احتفال" أو "حفلة" تدور في فمك، أو وليمة تشغل جميع حواسك، وهذا هو بالضبط ما يصيبني كلما تذوقت طبقاً لذيذاً، أو كلما نجحت في "اصطياد" المطاعم المغمورة، المثيرة للإهتمام Hidden Gems والتي أشعر عند اكتشافها وكأنني عثرت على كنزٍ مدفون. أما لجميع الأشخاص الذين ينصحونني بضرورة إنهاء علاقتي مع الطعام، على اعتبار أنها قد تقودني إلى السمنة وإلى مشاكل صحية أنا بغنى عنها، أجيبهم على طريقة الشاعر الكبير نزار قباني: "وهل يستطيع المتيّم بالعشق أن يستقيلا؟ ما همني إن خرجت من الحب حيّاً وما همني أن خرجت قتيلاً".
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image