"عندنا في مصر، بقت إساءة إنك تقول فلان مصري مسيحي أو فلان مصري مسلم، مبقاش ده مقبول عندنا دلوقتي بقى اسمه مصري بس، له حق المواطنة"، بهذه الكلمات حاول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إيصال رسائله خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي للعالم الغربي، مؤكداً أن مصر دولة مواطنة للجميع بغض النظر عن دين المواطن.
ويبدو أن الرئيس قد استقى انطباعه من عالمٍ آخر، لا من الشارع المصري الذي لا يزال يعاني من تلوثٍ فكري ينطوي بعضه على طائفية مقيتة، غذتها التيارات الإسلامية المتشددة تحت سمع وبصر الأجهزة المصرية على مدار العقود المنصرمة.
وتتعارض انطباعات السيسي ورسائله مع الواقع المرير إذا ما نظرنا إلى ما وقع في المنيا مطلع الشهر الجاري. "يا جماعة إهدوا لو سمحتوا، عشان أنا وحمدي بيه هنخش ونطلعهم من هنا خالص، افتحوا لنا طريق يلا... ". هكذا كان يصيح رجل الأمن المصري في وجه تظاهرة طائفية ثائرة على بعض المواطنين المسيحيين في إحدى قرى محافظة المنيا، اتخذوا من إحدى المباني مصلى لهم فأقاموا فيه قداساً، لعدم وجود كنيسة في القرية.
ربما لا يبدو هذا التصرف غريباً، علينا نحن المصريين، فقد اعتدنا، يا للأسف، مثل هذه المشاهد، لكن العجيب أن هذا التصرّف جاء بعد أسابيع قليلة من قرار رئاسي تشكيل لجنة تُسمى "اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية"، ونص القرار الرئاسي على أن يكون رئيس اللجنة مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب وعضوية كل من ممثلين عن هيئة عمليات القوات المسلحة والمخابرات الحربية والمخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني.
ويفترض أن تواجه هذه "اللجنة" الأحداث الطائفية، وتعمل على وضع استراتيجية لمنع وقوع أحداث طائفية! المؤسف أن أول إرهاصات هذه اللجنة كان التأسيس لمفهوم الطائفية، وإلا فما معنى أن ترضخ لمطالبات طائفية بقطع الصلاة عن المسيحيين وإخراجهم بالقوة وهم وافقون أمام الله؟
أتفهم تماماً الاتجاه القائل بأن دولة القانون يجب أن يراعي فيها المصلي أن ثمة مكاناً للصلاة ليصلي فيه، لكن ماذا لو لم يكن له مكان قريب يؤدي فيه صلاته؟ وقد كان لافتاً اختيار أعضاء اللجنة ورئيسها بخلفيات أمنية ومخابراتية، ما أفهمه أن البيئة التي تلوثت بأفكارٍ طائفية تحتاج إلى مواجهة فكرية وحقوقية وثقافية بجانب التعامل الأمني.
والحقيقة المُرّة أني لا أفهم، لماذا تسامحت المؤسسات الأمنية مع المطالبات الطائفية بإخراج المصلين المسيحيين بالقوة، بل كيف سمحت أصلاً بأن يتظاهر مسلمون ويهتفون، في حين تسحق القوات الأمنية أي شابٍ (أو فتاة) تُسول له نفسه التظاهر سياسياً، ناهيك بالتماهي معه بل الرضوخ لمطلبه! إلا إذا كانت الدولة بمؤسساتها ليست جادة حقاً في القضاء على الفكر الطائفي الذي يُعشش في عقولِ قطاع كبير من المصريين.
ولا أستطيعُ القول بأن إدارة السيسي تحملُ أفكاراً طائفية مثلاً، أو أنها تغذي عداواتٍ بين الغالبية المسلمة والأقلية المسيحية في مصر. فالحقيقة أن السيسي بدا حريصاً على تحسين صورتهِ في الخارج والداخل من خلال الزيارات المتعددة للمسيحيين، وبناء أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط، حتى أنهُ استمال فعلياً قلوب المسيحيين لما يكابدوه ولا يزالون من أدمغةٍ غسلها التشدد في المجتمع، ناهيك بخوفهم باعتبارهم أهدافاً مشروعة للجماعات المسلحة التي تَسكُن في صحاري البلاد.
ويفترض أن تعمل "لجنة" الأحداث الطائفية على وضع استراتيجية لمنع وقوع أحداث طائفية! المؤسف أن أول إرهاصات هذه اللجنة كان التأسيس لمفهوم الطائفية، وإلا فما معنى أن ترضخ لمطالبات طائفية بقطع الصلاة عن المسيحيين وإخراجهم بالقوة وهم وافقون أمام الله؟
وقد كان لافتاً اختيار أعضاء "اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية" ورئيسها بخلفيات أمنية ومخابراتية، ما أفهمه أن البيئة التي تلوثت بأفكارٍ طائفية تحتاج إلى مواجهة فكرية وحقوقية وثقافية بجانب التعامل الأمني.
لن تستطيع مواجهة الأفكار الطائفية بلجنة أمنية، أو إدعاءات بالتآخي تجافي الحقيقة وتخاصم وجدان الشارع، ولن تتحسن الصورة عندما تقع جريمة قتل طائفية لا يمكن تسميتها إلا قتلاً على الهوية، ثم تتهم الأجهزة الأمنية القاتل بالاختلال العقلي.
لكنّ هذا الحرص وحده لن يساعد على مواجهة الفكر الطائفي، لأن النظم القمعية لا يهمها مواجهة الأفكار الملوثة بقدر ما يشغلها تشكيل هوية جديدة تتناغم مع أجندة النظام الحاكم. ولا شكّ أن إدارة السيسي تسعى للتأثير في التوجهات التي بات يحملها المواطن المصري، وتحديداً الشباب، إذ يبدو السيسي منهمكاً بخلق توازنات جديدة في الهوية المصرية، فهو دائماً يثير الجدل بشأن الهوية المصرية، وضرورة الانفتاح على الآخر، حتى أنه في بعض الأحيان تحدث عن حقوق اليهود بل ذهب إلى أبعد من ذلك وألمح إلى حقوق البهائيين في قمة الحرية، قال: "نتعامل مع المؤمن وغير المؤمن على السواء في دولة مواطنة وتحت مظلة القانون".
وهي رسائل إيجابية ولا شك، لكنها لا تعدو كونها مجرد رسائل، لأن الرجل، وهو الذي جاء بعد ثورة يناير التي اختمرت في قلوب وعقول كثيرين من المصريين، يحاول تفتيت ما تبقى من أفكارٍ ثورية لدى مجتمعٍ تشبع من الاستبداد. ولا يمكنُ لمثل هذه المحاولات أن تعالج الأفكار الطائفية، لما تنطوي عليه من تناقضات رئيسية، إذ كيف يمكنني التسليم بأنك حقاً تسعى للانفتاح على الآخر والتعايش السلمي وتقبل الاختلاف، وأنت تضيق ذرعاً بمن يختلف معك في الرأي!
كذلك لا يمكنك أن تحاول تحريري من أفكاري، ثورية كانت أو رجعية أو طائفية، لتخلق مني فرداً منقاداً لأجندتك الخاصة ولما تفهمه أنت عن الهوية المصرية أو ما يجب أن تكون عليه الهوية المصرية. فالتحرر يعني التحرر، لا يعني إطلاقاً أن تحاول تحريري من أفكاري الثورية أو الرجعية أو الطائفية، لأكون منقاداً لما يتماهى مع النظام! هذا ليس تحريراً بل محاولة لجعلي خانعاً.
لن تستطيع مواجهة الأفكار الطائفية بلجنة أمنية، أو إدعاءات بالتآخي تجافي الحقيقة وتخاصم وجدان الشارع، ولن تتحسن الصورة عندما تقع جريمة قتل طائفية لا يمكن تسميتها إلا قتلاً على الهوية، ثم تتهم الأجهزة الأمنية القاتل بالاختلال العقلي. هذا لن يضفي على المجتمع جمالاً ليس فيه ولن يجبر خواطر المكلومين.
إنكار الحقيقة لن يغيرها بل سيُفضي لجريمة طائفية أخرى، وإعلان الطوارئ لن يردع المتطرفين، فمفهوم الطوارئ غائب أصلاً عن عقولهم. اليقين يأتي فقط عندما أختلفُ معك فلا تلاحقني، لا أن تكرر على مسامعي حرصك الدائم على التعايش السلمي وتقبل الاختلاف واحترام الآخر. والحرية وحقوق المواطنة ليستا مجالا للإدعاء، بل هما من الركائز الحقيقية لأي أمة تريدُ أن تنهض بنفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...