الشمس خجولة في تبليسي. تتوارى في مكانٍ غامض خلف جبال "ماخاتا" التي تبدو كما لو أنها تطوق المدينة. لا غيم كثيف في الأفق يحجب الشمس، لكنها لا تبدو طليقة. تكتفي فقط بإرسال نور الصباح لينعكس على الأسقف القرميدية للبيوت، على قباب الكنيسة التي تتجاور مع ملعب لكرة القدم . الهواء شفّاف جدّاً ونقيّ، مشبع برائحة السّرو والصنوبر وأوراق شجر التوت التي تلوح مع نسمات الصباح. من شرفتي في الطابق الثالث، أجول بعيني لأكتشف هذا الشارعَ الفرعيّ الصغير في منطقة "أفلاباري".
"هنا تبليسي القديمة." يقول لي إيزاكي- موظف الاستقبال في الفندق- هذه العبارة، ردّاً على أسئلتي المتلاحقة والكثيرة. وأنا أفرد خريطة المترو لأتمكّن من تحديد مكاننا في المدينة، أكتشف فعلاً أننا نسكن قرب أبرز المعالم الرئيسية في تبليسي: كنيسة تساميبا، التلفريك،ريكي بارك، جسر ميتاخي، نهر كورا، قصر الملكة دارجين، ساحة ميداني، ساحة الحرية، وأبانا توبي (حمامات المياه الكبريتيه)، وأننا نبعد محطتين بالمترو عن شارع روستفالي الذي حمل اسم شاعرٍ جورجيّ من القرون الوسطى يدعى شوتا روستفالي، كما يوجد فيه المسرح الوطني، ودار والأوبرا.
جسر السلام
إنه المكان الأول الذي قصدناه في جورجيا، لأنه وبالصدفة لم يكن يبعد إلا أمتاراً قليلة عن الفندق. جسر السلام الذي افتتح عام 2010 هو جسرٌ للمشاة على شكل قوسٍ كبير مبنيّ من الزجاج والفولاذ، ويقع فوق نهر كورا وسط العاصمة الجورجية..
يوجد بجانب الجسر منتزه "ريكي بارك" الذي يُطلّ على نهر كورا، ويحتوي ألعاباً للأطفال وأماكن جلوسٍ للكبار. من الممكن اعتبار الجسر بحدّ ذاته تحفة جمالية من صنع الإنسان، حيث رحابة المكان المطلّ على النهر، مع جمالية تشكيل معمار الجسر يشكّلان معاً مشهداً خلّاباً لا يتشابه مع مكان آخر. من المهمّ في جورجيا أن تعثر على متحدّث بالإنكليزية، وهذا ليس متوفراً دائماً؛ فالجيل الكبير الذي تجاوز الخمسين يتحدّث الروسية، والجيل الشابّ فقلّة منه من يعرف لغةً أخرى غير الجورجية، ولا يبدو الجميع مكترثاً بالأمر، حيث لم يطلُ هذا البلد حتى الآن الهوسُ الأميركي، فلا يصادفك التقليدُ الأعمى الطامح للتشبّه بالحياة الأمريكية.
في شارعٍ يتّجه إلى الأعلى نحو كنيسة "تسامبيا"، تنتشر محلّات الخضار والفاكهة، بائعات شابّات يعرضن فواكهَ كثيرة من خوخٍ بأنواعِه ودرّاق ومشمش وإجاصّ وموز وتفاح وتين وبطيخ أصفر وأحمر، إلى جانب العسل الجورجيّ الشهير، والنبيذ. يعتقد الجورجيون أنهم أوّل من صنع النبيذ في العالم. أشعر أن الجمال ينفرط من ألوان الفاكهة وحبّات العنب الأحمر.
من الملاحظ أيضاً في الأماكن العامّة في تبليسي حضورُ البوليس الجورجي، من خلال وجود رجال أمنٍ في الزيّ الرسميّ والمدنيّ أيضًا؛ وهذا يمكن ملاحظته بسهولة مع استعدادهم للتدخّل عند احتمال حدوث أيّ موقف بسيط من الممكن أن يتصاعد ليؤدّي إلى مشكلة.
وعلى مقربةٍ من جسر السّلام، يوجد التلفريك الذي يؤدّي إلى أعلى حيث توجد قلعة "نارينخلا"، وكنيسة الأمّ جورجيا. ومن خلال التلفريك يمكن رؤية جمال المدينة وبيوتها الجبليّة ذات الأسقف القرميدية. من الأعلى تبدو تبليسي مثل لوحة بديعة من صنع الخالق، أما الهواء النقي والشفاف يجعلك مغموراً بالخفة والتخيّل أن هذه المدينة ليست موجودة على كوكب الأرض، كأنّ التلوّث والدّخان والزّحام لم يعرف طريقَه إليها.
من المهمّ في جورجيا أن تعثر على متحدّث بالإنكليزية، وهذا ليس متوفراً دائماً؛ فالجيل الكبير الذي تجاوز الخمسين يتحدّث الروسية، والجيل الشابّ فقلّة منه من يعرف لغةً أخرى غير الجورجية، ولا يبدو الجميع مكترثاً بالأمر، حيث لم يطلُ هذا البلد حتى الآن الهوسُ الأميركي، فلا يصادفك التقليدُ الأعمى الطامح للتشبّه بالحياة الأمريكية؛ لا تجد مثلا سلسلة مطاعم ماكدونالد، وكنتاكي، وبيتزا هت، إلا فيما ندر؛ وفي المقابل تنتشر المطاعم الصغيرة التي تقدّم الوجبات الجورجية التقليدية.
من المؤكّد أن الحقبة الشيوعية الطويلة قد أثّرت على الجورجيين، وهذا يتّضح في كثيرٍ من التفاصيل، منها طبيعتهم التي تميل إلى البساطة في المظهر والعملية أيضاً، إلى جانب ساعات العمل الطويلة: ستة أيام في الأسبوع، وتسع ساعات يومياً، سواء للمرأة أو للرجل. ومن الملاحظ أيضاً غياب المولات الضخمة. فلا يوجد في العاصمة سوى مولين فقط؛ الأول هو تبليسي مول، ويقع على أطراف المدينة، والثاني "ايست بوينت".
بائع الكتب في شارع مرجان شفيلي
عبر محطة المترو يمكن الوصول إلى شارع مرجان شفيلي. ربما ينبغي هنا التوقّف لذكر أنّ محطة المترو في تبليسي قديمة جدّاً تعود لسنوات الأربعينات في القرن التاسع عشر. محطّات المترو في جورجيا هي عبارة عن أنفاقٍ تحت الأرض، تتلاصق فيها المحلّات التي تبيع منتجات محلّية من ثيابٍ وأحذية رخيصة السّعر. سعر تذكرةِ المترو 2 لاري، فالعملة الجورجية هي "لاري"، وكلّ مائة دولار تعادل ما يقارب مائتين وخمسين لاري.
الخروج من محطّة المترو يؤدي مباشرة إلى شارع "مرجان شفيلي". الملاحظة الأولى أنّ تصميم الشارع يشبه الشوارع الأوروبية العريقة التي يعود تاريخها للقرنين الثامن والتاسع عشر. واجهات الأبنية تشبه الشّرفات الباريسية الصغيرة، وكذلك الزخارف الدقيقة المستلهمة من العمارة الإيطالية. توجد في الشارع أيضاً حديقة كبيرة جدّاً يرتادها الجورجيون والسّيّاح أيضاً، برفقة أطفالهم بسبب وجود ألعابٍ للأطفال وأماكن للاستراحات.
في شارع "مرجان شفلي"، يمكنك أن تستنج على الفور أنّه المكان المقصود من العرب المتردّدين على جورجيا. تنتشر كلمة "حلال" على واجهات المطاعم، ويمكنك بيُسرٍ أن تجدَ مطعماً تركياً أو شاميّاً أو عراقيّاً يقدّم الوجبات التقليدية المألوفة.
يفرش بائع الكتب الجورجي بضاعته على الأرض: كتب جديدة وأخرى قديمة، ومجلاتٌ وصحف كثيرة معظمها بالجورجية، وقسم منها بالروسية، وقليل جدّاً بالإنكليزية. كان للبائع الجورجي هيئة فيلسوف ينقصه الغليون، بجسده النحيل ولحيته الرمادية غير المشذّبة وشعره الأشعث. يخبرني أنه لا يتقن الإنكليزية بل الفرنسية. نتواصل قليلاً، وأسأله عن الكُتّاب الجورجيين. يعتذر لأنّ ليس لديه كتب مترجمة إلى الإنكليزية، ثمّ يقفز من بين صفّ المجلّات المصفوفة على الأرض نحو جدار الشارع الذي استندت الكتبُ إليه. يتناول من بينها مجلّداً متوسط الحجم، عريضاً، ويعطيني إياه؛ "إنه كتاب بالإنكليزية عن رسامين جورجيين من مختلف الأزمنة، بالإضافة إلى لوحات مرفقة مع كل فنان"، يقول لي مقلّباً صفحات الكتاب. أشتري الكتاب بعد مفاوضات قليلة بما يضاهي قيمة العشرين دولاراً.
يوجد في شارع مرجان شفيلي أيضاً ميدان يسمّى "الميدان"، وهو ساحة واسعة قديمة تعود للعصور الوسطى، وتتفرّع من الساحة عدة شوارع مليئة بالمحلّات التجارية التي تعرض الثياب الجديدة والأحذية من ماركات عالمية.
المطبخ الجورجي
خلال السفر ربما أكثر الأشياء التي أبحث عنها إلى جانب الأماكن القديمة في المدن هي أسواق الخضار والفاكهة، والمخابز؛ حيث متعة اكتشاف أنواع المخبوزات الخاصّة في كلّ بلد، والتي أرى أنها جزءٌ لا ينفصل عن اكتشاف ثقافة البلد ككلّ.
في شارعٍ يتّجه إلى الأعلى نحو كنيسة "تسامبيا"، تنتشر محلّات الخضار والفاكهة، بائعات شابّات يعرضن فواكهَ كثيرة من خوخٍ بأنواعِه ودرّاق ومشمش وإجاصّ وموز وتفاح وتين وبطيخ أصفر وأحمر، إلى جانب العسل الجورجيّ الشهير، والنبيذ. يعتقد الجورجيون أنهم أوّل من صنع النبيذ في العالم. أشعر أن الجمال ينفرط من ألوان الفاكهة وحبّات العنب الأحمر. أذوب وأنا أتأمّل هذا القدر من البراءة الطبيعية للفاكهة النقيّة. يمكن لزائرِ هذا البلد إن كان من عشّاق الفاكهة مثلي أن يستمتع في تذوّق ألذّها على سطح هذا الكوكب.
صادفتني خلال المسير عدة أفران تقدّم أنواعاً مختلفة من الخبز، معظمها يتّخذ شكلَ قاربٍ مغلق وكبير، إلى جانب أنواعٍ أخرى تتشابه مع الخبز التركيّ. توجد أيضاً مخبوزات مالحة محشوّة بالجبن، وأخرى حلوة تشبه حلوى الدنش الغربية، والكرواسان. كما أن هناك أيضاً "شيريخيلا"، وهي حلوي جورجية، عبارة عن مكسرات محشوة داخل فاكهة طبيعية مطبوخة على شكل أصابع طويلة، لكنها جافّة من الدّاخل وتشبه الجيلاتين.
أما المطبخ الجورجي فإنه لا يبعد كثيراً عن الذائقة العربية والتركية في مكوّناته الأساسية، حيث الخضار واللحوم والمعجّنات والزبادي والجبنة والبيض تدخل في معظم الأطباق، بالإضافة إلى حضور اللّحوم الباردة والعسل والنبيذ؛ لكنّ المطبخ الجورجي تأثّر على مرّ العصور بالبلدان المحيطة به مثل: روسيا، وتركيا، وأذربيجان، وأرمينيا، ليكتسب في مذاق أكلاته صبغته الخاصة. ومن المؤكد أيضاً أن التضاريس المتنوعة في جورجيا ساهمت في توفّر مكوّنات متنوعة تساهم في إثراء وصفات الطعام ومنحها التنوّع والخصوصيّة.
في الصباح، وربّما في كلّ الأوقات يمكنك تناول فطيرة الخاشابوري التي تعدّ إحدى أشهر الأطباق الرئيسية والتقليدية في المطبخ الجورجي؛ إنّها البديل للمناقيش في المطبخ اللبناني. يقوم الجورجيون بإعداد هذه الفطيرة عبر حشوِِها بالجبن، وإضافة بيضة على وجهِها ثم إدخالها إلى الفرن.
هناك أيضا فطائر الخوينالي التي يوضع بداخلِها العديد من الحشوات مثل الجبن أو اللحوم، وبعضٌ من التوابل. وإذا كنت من هواةِ التجريبِ وتودّ التعمّق في اكتشاف المطبخ الجورجي، عليك بتذوّق طبق الشاكابولي، وهو حساء يوجد به بعض قطع اللحم المطهيّ مع البيض والفلفل والخوخ الأخضر المز. قد تكون هذه المكونات غريبة في تجاورها، حيث أن بعضِها لا يتماشي مع الذائقة العربية.
ويعتبر طبق "بدريجاني" أيضاً من المقبّلات اللذيذة لاحتوائه على ثمار الباذنجان المحشوّة بالجوز المفروم، والمزيّن من الأعلى ببذور الرمان الشهية.
أفكر: ماالذي يُمكن تذكّره بعد مغادرة جورجيا؟
جمالٌ نادر وأصيل، أودية خضراء تمتدّ على مدّ النظر، كنائس عتيقة، أبراج مرتفعة، وقلاع قديمة، حوانيت ضيقة لبيع النبيذ والعسل، شوارع صغيرة في المدينة القديمة، وأخرى واسعة أوروبية الطراز؛ طبيعة ساحرة وجوّ نقيّ؛ نساء شابّات وعجائز مرهقات من ساعات العمل الطويلة، ورجال متذمّرون من ضيق الحال، ومن الحكومات؛ كلّ هذا إلى جانب تاريخ قديم ومركب، ورغم هذا تجد هذا البلد ناهضاً بقوّة نحو الحداثة ونحو السياحة أيضاً، فالودّ الذي يظهره الجورجيون في التعامل مع ضيوفهم فيه رغبة حقيقية بترك انطباعٍ لطيف لدى الزائر ليعود إليهم مرّة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...