شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن دودة الأذن.. أو متلازمة تكرار الأغاني

عن دودة الأذن.. أو متلازمة تكرار الأغاني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 7 يناير 201901:15 م
يبدأ الكاتب الأمريكي مارك توين قصته القصيرة "كابوس أدبي" بمقطع من قصيدة قرأها في الجريدة. بقيت هذه الكلمات تتكرر في عقله طوال اليوم، وفي الأيام اللاحقة، يكررها في حواراته وكأنّ هذه الكلمات سيطرت على وعيه، فلا يسمع غيرها ولا ينطق إلا بها. تُسمى هذه الحالة "دودة الأذن"، وحين تصيب المرء، وأكاد أجزم بأنّها تصيب البشر جميعًا، تتردد كلمات الأغنية أو القصيدة داخل رؤوسنا ولا تخرج. نسمع الأغنية طوال اليوم، نرددها فجأة دون وعي منّا إلى أن تفقد معانيها وتحتلنا كأنّ لا سيطرة لنا على أنفسنا. أغني في كلّ ليلة تقريبًا أغنية نامي يا صغيرة لأميمة الخليل ومارسيل خليفة حين أساعد ابنتي على النوم. أكرر هذه الأغنية عشرات المرات حتى تفقد الكلمات أي معنى لها وأفقد أنا احساسي بالأغنيّة وتسقط ابنتي في نوم عميق. وحين تستيقظ ليلًا أضع يدي على جسدها الصغير وأردد كلمات الأغنية فتغفو مرة أخرى حالمة بأشياء لا نعرفها ولن نعرفها. الجانب المشرق في الأمر، هو وجود شخص ما على سطح الكوكب يحبّ سماع صوتي وأنا أغني، صوتي الأقرب لخوار العجل منه إلى صوت غناء بشري. رغم صوت غنائي الذي ينفر منه البشر والطير إلّا أنّني أحب الغناء وقراءة الشعر بصوت عال، لا أفعل ذلك عادة أمام الناس. أحتفظ بهذه العادة لنفسي. أغني أغنيات وأعيدها عشرات المرات في اليوم. أقرأ قصائد معينة مرات ومرات في أيام متتالية إلى أن تتعب مني القصيدة. هكذا ألاعب "دودة أذني". أتذكر أخي حين كان مراهقًا، وحين كان تسجيل الأغاني على الكاسيتات فعلًا عاديًا يقوم به الجميع. سجّل أغنية كاظم الساهر "تعبت" ثلاث مرات متتالية على نفس الشريط، وأعطاه للفتاة التي يحبها. سألته حينها لماذا تفعل هذا؟ أي لماذا تسجل نفس الأغنيّة ثلاث مرات، ولا تسجّل ثلاث أغنيات مختلفة. قال: لكي تعرف إنّي تعبت. كانت معلمة اللغة العربية تقول لنا إنّ تكرار كلمات معينة في القصيدة يفيد في التوكيد. هناك تكرار لا معنى له وهناك تكرار يؤكد المعنى. كتبت صديقتي، التي تسكن في برلين، على موقع فيسبوك منشورًا على صفحة صديقتنا المشتركة، التي تعيش في بيروت، تشكي لها إنّني أسمع نفس الأغنيات مرات كثيرة في اليوم إلى أن تكره الأغنية. قالت لها إنّني أفعل مثلما تفعل تلك الصديقة البيروتيّة. هذا الفعل، على خصوصيته، يشترك به الكثير من الناس. لدي صديقة تكاد لا تسمع شيئًا إلا فرقة مشروع ليلى. وأحد أصدقائي كان يستمع إلى ألبوم عمرو دياب حين أصبح متوفرًا على يوتيوب عشرات المرات في اليوم لأيام متتالية إلى أن حفظ كلمات الأغنيات كما يحفظ الشخص اسمه. عندي أصدقاء يستمعون إلى سيمفونيات شوبان وتشايكوفسكي طوال النهار ويدندنون هذه الألحان حين يمشون في الشارع. أحفظ الكثير من الأغنيات العربية رغم أنّني لم أستمع إليها بفعل إرادي. كان سائقو الميكروباص يستمعون إلى جورج وسوف ووائل كفوري ونجوى كرم وغيرهم. لم أستمع لهؤلاء بإرادتي أبدًا، ورغم ذلك فأنا أحفظ معظم أغنياتهم عن ظهر قلب. كذلك الأمر مع إعلانات التلفزيون السوري القديمة أو أغنيات برامج الأطفال. أستمع إلى أغنيات أخرى بتكرار يملّه الملل؛ أستمع إلى صباح فخري وأم كلثوم وكاظم الساهر وشوبان وجوان حاجو وبوب ديلان وإيديث بياف وجاك بريل ووووو الخ. أكرر هذه الأغنيات وهذه المقطوعات الموسيقيّة إلى أن أتعب وتتعب أذني فلا أعود قادرًا على أن أستمع لهذا الصوت لفترة غير قصيرة. في أغلب الأوقات حين أستيقظ من النوم أسمع في رأسي أغنية ما، أحيانًا قد تكون أغنية لم أستمع إليها منذ سنوات طويلة. أجلس إلى كمبيوتري وأستمع إلى تلك الأغنية. أقول لخليلتي: لا بدّ أن أستمع إلى هذه الأغنية الآن، لقد حلمتُ بها. تقول لي: وهل يحلم أحد بأغنية؟ فأقول لا أعرف، لكن هذه الأغنية لا تفارقني. قد يدوم استماعي لهذه الأغنية ساعات أو قد تخرج من رأسي بعد أن أستمع إليها مرة واحدة.
سجّل أخي أغنية كاظم الساهر "تعبت" ثلاث مرات متتالية على نفس الشريط، وأعطاه للفتاة التي يحبها. سألته حينها لماذا تفعل هذا؟ أي لماذا تسجل نفس الأغنيّة ثلاث مرات، ولا تسجّل ثلاث أغنيات مختلفة. قال: لكي تعرف إنّي تعبت.
ما الذي يحدث حين تتكرر الأغنيات والقصائد في الرأس؟ لماذا يحدث ذلك؟ وهل نتحكم بالإيقاع وهل نستطيع التخلص من هذه الحالة دون أن نصاب بالجنون؟
ما الذي يحدث حين تتكرر الأغنيات والقصائد في الرأس؟ لماذا يحدث ذلك؟ وهل نتحكم بالإيقاع وهل نستطيع التخلص من هذه الحالة دون أن نصاب بالجنون؟ على كلّ حال لا بأس إن أصبنا بهذا الجنون؛ فجنون الموسيقى أخف من جنون الموت الذي يحتل بلادنا.
إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image