"كأس المعرفة طافحة، هنيئًا لمن يحظى بقطرة، ونبع الحياة في فوران، هنيئًا لمن يشرب جرعة"، هذه مقولةٌ منسوبةٌ لحسين علي نوري، الملقب ببهاء الله، مؤسس البهائية.
في عام 1868 توقفت سفينةٌ في مرفأ الإسكندرية وكان على متنها سجين في رحلة منفاه الأخيرة من أدرنه في تركيا العثمانية إلى أعتى سجون تلك الإمبراطورية في عكا، وكان هذا السجين حسين علي نوري -بهاء الله- ولم يكن يعرف شأنهُ في ذلك الحين سوى عدد قليل من الأتباع الذين آمنوا برسالته التي دعا فيها إلى حتمية وحدة العالم الإنساني من أجل إرساء مدينة إلهية جديدة تقوم على العدل والمساواة بين البشر قاطبة.
رحلت السفينة إلى عكا ولكنها تركت مِنْ ورائها من يبلغ أهل مصر بالرسالة الجديدة، وفي ذلك الوقت، كانت الحدود بين مصر وبقية البلدان الواقعة ضمن الإمبراطورية العثمانية مفتوحة من حيث التنقلات والتجارة فاستمرت الصلات بين سجين عكا واتباعه من المصريين من خلال المسافرين بين مصر وفلسطين، بعد وفاة بهاء الله في عكا عام 1892، تولى أمر الدين ابنه الأكبر عبد البهاء.
كانت أول زيارة قام بها عبد البهاء إلى مصر في 1910، مكثَ فيها عاماً كاملاً زار خلاله القاهرة وبورسعيد ثم غادر من الأسكندرية.
غادر الرجل وقد ترك بصمةً راسخةً للدين الجديد، ففي 1925 حرض مأذونًا بقرية كوم الصعايدة، في مركز ببا بمحافظة بني سويف على ثلاثة أشخاص بهائيين، وانتهى الأمر عندما صدر الحكم من محكمة ببا الشرعية للاستئناف في لغة لا تقبل أي لبس ولا غموض ما يلي: "إن البهائية دين جديد قائم بذاته له عقائد وأصول وأحكام خاصة تغاير وتناقض عقائد وأصول وأحكام الدين الإسلامي تناقضاً تاماً، فلا يقال للبهائي مسلم ولا العكس، كما لا يقال للمسيحي مسلم ولا العكس".
وبهذا كانت مصر أول دولة في العالم تعلن قانونياً استقلال الدين البهائي، لاحقاً وهبت الحكومة المصرية في 1939 البهائيين قطعتين من الأرض في القاهرة والإسماعيلية لاستعمالهما مدافن لموتاهم.
وظلّ البهائيون يتمددون حتى أيدت المحكمة الإدارية العليا في 2009 حق البهائيين المصريين في الحصول على بطاقات الرقم القومي وشهادات الميلاد دون ذكر أي ديانة. وفي سابقة تاريخية عام 2013 قامت لجنة الخمسين لصياغة الدستور المصري بتقديم دعوة رسمية لوفد من البهائيين للاستماع إلى مطالبهم لضمان حقوقهم في الدستور.
ونصّ الدستور المصري على حظر التمييز، وتكافؤ الفرص بين المصريين على أساس المواطنة، وبهذا يُصبح من حق البهائيين تخصيص أراضي قبور لدفن موتاهم، وبناء دور عبادة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وربما لم يكن أحد ليجرؤ أن يتحدث في أمر كهذا، خوفاً من بطش النظام، لكن ماذا لو تحدث رأس النظام نفسه؟
"لا تمييز بين رجل وامرأة ولا تمييز بين دين ودين، الكل سواء، لو إحنا عندنا في مصر ديانات أخرى سنبني لهم دور عبادة، ولو في يهود سنبني لهم، ولو في ديانات أخرى هنعمل، لإن ده حق المواطن، يعبد كما يشاء، وبالمناسبة يعبد أو لا يعبد ده موضوع لا نتدخل فيه".
بهذه الكلمات حاز الرئيس المصري تصفيقاً حاراً، في إحدى جلسات منتدى شباب العالم مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بدا الرئيس جاداً في حديثهِ، إلى الحدّ الذي دفع بالنائبٍ البرلماني محمد فؤاد للتقدم بطلب إحاطة لرئيس الوزراء يدافع فيه عن حقوق البهائيين في ممارسة شعائرهم الدينية.
حديثُ الرئيس عن حرية الاعتقاد هو الذي خلق هذا الحراك، ولا شكّ أنهُ لو صدقت نوايا الرئيس ولم تكن مجرد بروبجاندا تتناسب مع المنتدى وطريقة انعقاده، فإنه أمر عظيم، أن تشهد تلك الحقبة المظلمة انفتاحاً في جانبٍ من جوانب الحرية وهي حرية الاعتقاد، لكن الرؤى والأفكار إذا لم يتم ترجمتها على أرض الواقع تظل أفكاراً ليس إلا.
ولكي تنفذ مساراتٍ تتعلق بحرية الاعتقاد عليك أن توفر بيئة عامة تدعم الحریات الدستوریة في الاعتقاد والفكر والرأي ولا تصادرها. وأعتقدُ أن طلب الإحاطة الذي تقدم به النائب محمد فؤاد، اختبار حقيقي لتصريحات الرئيس، إذ من المؤسف أن تُمثّل تصريحات الرئيس أهميةٌ أكبر من أهمية الدستور نفسه، ففي بلادنا لا تتحرك المؤسسات وفقاً للمعايير الدستورية بل وفقاً لتوجيهات الرئيس.
ويتقاطع طرح الحق في حرية الاعتقاد مع المناخ العام في مصر، والذي جرى قمعه والعبث بأفكاره على مدى العقودِ المنصرمة. فالثابت تاريخياً أن مصر على المستوى الشعبي لن تثور من أجل حرية الاعتقاد، وبالتالي تُصبح مفاتيحُ الأزمة وآليات التعامل معها في يد الحكومة نفسها.
كانت مصر أول دولة في العالم تعلن قانونياً استقلال الدين البهائي، لاحقاً وهبت الحكومة المصرية في 1939 البهائيين قطعتين من الأرض في القاهرة والإسماعيلية لاستعمالهما مدافن لموتاهم.
ونصّ الدستور المصري على حظر التمييز، وتكافؤ الفرص بين المصريين على أساس المواطنة، وبهذا يُصبح من حق البهائيين تخصيص أراضي قبور لدفن موتاهم، وبناء دور عبادة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وفي هذا السياق لا نطالبُ للبهائيين خاصة، بل هو مفهومٌ عام، فالحرية لا تتجزأ، ولا تنالها طائفة دون غيرها، فإذا كنتم تعتبروننا مواطنين مصريين، فلتكن الحقوق بيننا متكافئة، فإذا انتقصت من حق البهائي اليوم، فغداً ستنتقصُ من حق المسيحي، وبعد غدٍ من غيره، فعصا القمع لا تُفرق.
أميلُ إلى الظن الذي يُفضي إلى أن الرئيس ربما أراد إيصال رسائل أكثر انفتاحاً إلى العالم الخارجي، ولا أعتقد أن رئيس الوزراء سيستجيبُ لطلب الإحاطة، وربما تطفو مشكلة البهائيين قليلاً، لكنها سرعان ما ستندثر. إذ لا يُعقل أن تُحاصر الأجهزة الأمنية عملاً فنياً أو أدبياً بينما يتحدث رئيس الدولة عن حرية الاعتقاد! كما لا يُعقل أن توزع المنابر الإعلامية التي تعمل تحت مظلة النظام اتهاماتٍ على مثقفين وكُتاب وساسة بإزدراء الأديان، بينما يتحدث الرئيس عن حرية الاعتقاد والفكر!
فإذا كان الرئيسُ صادقاً فلماذا لم يوجه الاعلام لتمهيدِ الرأي العام لمناقشة مسائل تتعلق بحرية الاعتقاد والفكر بدلاً من أن نتهم رانيا يوسف بنشر الرذيلة، ومخالفة العرف السائد؟ لماذا لم يوجه الرئيس وزراءه بتوفير حقوق البهائيين، كما ينص عليها الدستور بدلاً من أن تتربص أجهزتهُ الأمنية بناشط يُعبر عن رأيهِ هنا وهناك؟ ولماذا لم تُترجم تصريحات الرئيس إلى واقع فعلي يُفضي إلى بناء دور عبادة للمصريين من أتباع الديانات المختلفة، أم أن البهائيين ليسوا مصريين؟
وفي هذا السياق لا نطالبُ للبهائيين خاصة، بل هو مفهومٌ عام، فالحرية لا تتجزأ، ولا تنالها طائفة دون غيرها، فإذا كنتم تعتبروننا مواطنين مصريين، فلتكن الحقوق بيننا متكافئة، فإذا انتقصت من حق البهائي اليوم، فغداً ستنتقصُ من حق المسيحي، وبعد غدٍ من غيره، فعصا القمع لا تُفرق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...