التقتها مذيعة تليفزيون في مقابلة على الطريق. واحدة من تلك المقابلات الكثيرة التي تتكرر يوميًا في شارع الحمرا الرئيسي، حتى نكاد لا نمرّ ولا مرة من هناك دون أن نرى صبية تحمل ميكروفون، يرافقها مصوّر، توقف الناس وتسألهم عن رأيهم بقضية ما. التقطتها الكاميرا، ولسبب ما أحبتها، أو على الأقل، صاحبتها… واحدة من العشرات، بل المئات، في يوم عادي جدًا، "أمل حمادة" ما كان سطع نجمها لولا أنها تملك شيئًا مختلفًا، وأيضًا، بطبيعة الحال، لولا عبث القدر اللبناني.
أما عن الرجال، فقالت: "انقرضوا"!
من هي "أمل حمادة" الشخصية المشهورة، لا الإنسانة العادية التي يستطيع أن يعرف عنها المختار والأقارب والجيران، ولا الحاملة لبطاقة هوية؟ ماذا تشتغل؟
هي ليست من أهل الفن ولا الصحافة ولا السياسة. هي، منذ حوالي أربع سنوات، بدأت تصبح أولى شخصيات السوشيال ميديا، بشكل أو بآخر الفاشينيستاز، الإنفلوانسرز بنسختها التي لم تتفذلك بعد والشعبية. تحل ضيفة في برامج الترفيه التي تحظى برايتنج عال، كما لديها محطة على اليوتيوب تنتقد من خلالها "بلا رحمة" المجتمع والنظام والفنانين / الفنانات وتبدي رأيها - فلسفتها في الحياة التي، على ما يبدو، لوعتها.
كان الظهور الأول لأمل حمادة صادماً مكثفاً، غريباً عجيباً، واقعياً حقيقياً في آن واحد، مع خدين وشفتين وشعر مطابقة لمقاييس السيليكون والكيراتين الرائجة لدى شريحة نسائية لا يستهان بها، المفتونات بموضة عمليات التجميل. معجوقة مخفوقة، ساخطة مما آلت إليه الظروف عمومًا لكن "رايقة معها" في ذلك النهار إذ تواطأت الكواكب ليكون مميزًا بحياتها ويطلقها وسط عالم ليس لها تمامًا. على طريقة من كل واد عصا، حكت بين خبصة مواضيع، عن شحّ الرزق وقلة النصيب. نظرت إلى المحلات حولها في السوق حيث تقف وأشارت إلى انعدام الحركة وكساد البضائع، أما عن الرجال، فقالت: "انقرضوا"!
هكذا إذن، خرجت أولى كلماتها المأثورة بكل ما فيها من عادي نفتقده. غدت شعارًا ثم وسم، تلتها: "مين ماخدة؟!" التي انتشرت على نطاق أوسع للتعبير خلال مدة طويلة، لم تنته، عن أزمة علاقات واقتصاد، كل هذا بدون فلسفة.
أكيد أني لست جديرة بأي تقييم للناس، لكن لا أستطيع أن لا أستشعر ذكاء أمل حمادة الخارق، يعززه عدم خوفها من إطلاق الأحكام عليها.
هناك بين متتبعيها من أحبوها فعلاً، ومن استغلوا طبيعتها ليستهزأوا بها، لأننا أولاد مكان وظروف تعجز غالبًا عن فهم الإنسان، وتتصيد عمدًا المأزوم (وكلنا مأزومون) لتستعمله، كما تقصر على تقبل "الكوميديانة" (خاصة المرأة) كساخرة تروّض الألم
لكن أخيرًا، فلنعترف: "أمل حمادة مرّت من هنا"، كما يكتبون على حيطان بلد خرج من حرب، لا من نتائجها. عاشت عمرًا قصيرًا، برزت فيه على كبر، ورحلت على صغر.
هكذا إذن، خرجت أولى كلماتها المأثورة بكل ما فيها من عادي نفتقده. غدت شعارًا ثم وسم، تلتها: "مين ماخدة؟!" التي انتشرت على نطاق أوسع للتعبير خلال مدة طويلة، لم تنته، عن أزمة علاقات واقتصاد، كل هذا بدون فلسفة.
أكيد أني لست جديرة بأي تقييم للناس، لكن لا أستطيع أن لا أستشعر ذكاء أمل حمادة الخارق، يعززه عدم خوفها من إطلاق الأحكام عليها. هذا الذكاء الفطري، الأول، البديهي، غير المشذب، محبب لدى "الجمهور"، ويخفي جانباً من دهشة ممتعة. صنعت أمل بلحظة سلوغان (slogan) تقعد الشركات شهوراً وشهوراً لتخترع مثله وتروجه فتصرف عليه الأموال الطائلة.
ربما لم تكن أمل حمادة مهضومة كل الأوقات، ربما زادتها أحيانًا عبر الشد والقد والصراخ والهجوم على "نفخ" و"تورم" هي نفسها جزء من بؤسه، ربما هناك بين متتبعيها من أحبوها فعلاً، ومن استغلوا طبيعتها ليستهزأوا بها، لأننا أولاد مكان وظروف تعجز غالبًا عن فهم الإنسان، وتتصيد عمدًا المأزوم (وكلنا مأزومون) لتستعمله، كما تقصر على تقبل "الكوميديانة" (خاصة المرأة) كساخرة تروّض الألم، تقلل من شأنه لترتفع عنه، فتمسي لدى البعض "مسخرجية"، قريبة من الابتذال، قابلة لينمر عليها: يا للقسوة!
لكن أخيرًا، فلنعترف: "أمل حمادة مرّت من هنا"، كما يكتبون على حيطان بلد خرج من حرب، لا من نتائجها. عاشت عمرًا قصيرًا، برزت فيه على كبر، ورحلت على صغر.
لروحك السلام. أضحكتني حتى كرت دموعي.
باي أمل… باي!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...