شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قصة حسن، الذي لم يستطع تغيير العالم

قصة حسن، الذي لم يستطع تغيير العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 2 نوفمبر 201801:20 م
أخطئ أحيانًا كثيرة في محاولة ترديد ما اعتيد على ترديده أثناء القيام بأفعال اجتماعية يلحقها تقليد بنطق شيء ما؛ أحاول افتعال التناغم وإزاحة النّظر عن وجودي ثمّ أفشل بطريقة مبهرة، هناك أشياء تقال بعد انتهاء أحدهم من الطعام، أشياء تقال في كل طقس من طقوس مجالس العزاء، أشياء تقال أثناء اقتناص الفرح، الخ، لكن لا، لا تسعفني البديهة، أخلط هذا بذاك، يخرج أحدهم من الحمّام وأقول له: عافية، تحزن صديقتي وأواسيها: صحّة، يصبّ لي صديق قهوة في عزاء والده وأنطق: "دايمة"، الخ. عرفت مبكّرًا أنّي يجب أن أسكت فقط، ينفع السّكوت في قول ما أريد قوله، بافتراضٍ من الآخر أنّ هذا ما كنت سأقوله، وأنا سأجمع تلعثمي وارتباكي كسرّ. هذا لأقول، أنّ المقاطع هنا، رغم أنّها لا تبدو كذلك، كتبتها بشكل منفصل لأجل أشياء مختلفة ومتباعدة الأزمنة؛ جزء من رسالة طويلة كتبتها لمريم حمود عن اللاشيء، مقطعٌ عن انتحار إله لم يصدقه أصدقاؤه، انطباعٌ بعد نبش آلة التار الفارسيّة شدّني إليه همام السّليم، وغيره. 1/ حسن كانَ عاطفيًّا رقيقًا، حسّاسًا، شديد النّبل والشّهامة، وكان يحبّ الكتابة، التّسجيل.
كثيرًا ما حكى حسن عن رغبته بكتابة قصّة واحدة فقط يستطيع بها تغيير وجه العالَم، حسن لم يكن يحبّ هذا العالَم، كان يحلم بتغييره. توصّل حسن لفكرةٍ واحدةٍ سحرَته وامتلكته تمامًا، هذا ما أخبرني به عبر الهاتف، لم يتحدّث عن تفاصيلها لكنّه كان شديد الحماس وقال أنّه سيبدأ كتابة فكرته على شكل قصّة صغيرة واحدة، سيتغيّر بها لابدّ وجه العالَم للأبد. غاب حسن لأيّام طوال، اختفى تمامًا، قيل أنّه لا يخرج بسبب بعض التقلّبات المعويّة التي يعاني منها، وقالَ طبيبٌ أنّها ربّما تراكم سنواتٍ من مناورة الجّوع والتّغذية السيّئة. عرفنا بعدها أنّ حسن كان يعاني من عدم قدرته على إخراج ما في أحشائه، الكتام، لم يكن يستطيع التبرّز، لم يعد يتناول أيّ شيء أيضًا. مات حسن صباحَ يومٍ مشمس، لم يكتب القصّة ولم يخبرها لأحد. في جنازته صاحَ طفل صغير: هذه جنازة حسن الذي قتلَتهُ خرية. هكذا مات حسن، العاطفيّ الجّميل، الرّقيق، الحسّاس، هذه هي قصّة حسن الذي لم يستطع تغيير وجه العالَم. /2/ لا أعرفُ، إن كنت أعرف اللبلاب أم لا، قرأت عنه الكثير ولم أميّزه، ربّما أنا رأيتهُ وظننته صفصافاً، أو ربّما استندتُ إليه مرّةً وقلتُ ما أغربها هذه الزّانة، لست واثقاً إذاً حتى من الصفصافة والزّانة، أو، يمكن، لست واثقاً من أيّ شيءٍ أعرفه، ولا أعرف إن كنت سأحبّ اللبلاب أو لا إن عرفتهُ، وليس مهمّاً كل هذا، العقل شكٌّ متواصلٌ لا ارتكازٌ مُطلقٌ، لا يريحُ، لكنّ الحسّ أكثر إقناعاً، أكثر دفئاً أيضاً وفرديّة وخصوصيّة، سيأخذني الحسّ "أوّلا"ً لأن أعقلَ "ثانياً" ما إليه أرتاح، لا ما قرأت عنه أو ما صدّقته أو ما قيل لي، ربما سأكتب يوماً ليصدّق أحدهم أني عرفت شيئاً بلا عقل، معرفةٌ بحسٍّ فقط كصوتٍ متواصل يناديك، أو ربّما، أنا لا أعرف كيف أشرح العقل، قد يكون هو أن تهدأ فقط، أو ربما أن لا تخطئ محاولاً تفسير كلّ ما تشعر، هو أن تشعر فقط، وأن تسمح لنفسك أن تصغي، لحفيفٍ خفيفٍ لا تفهمهُ، وليس مهمّاً أن تفهمه، يعجبك دون أن تراه، أثناء بحثك عن اللبلابة أو الصفصافة أو الزّانة. الهدوء، أثناء عاصفة، هو أن تكون قادراً، على الإنصات، والمشي، والتحدث، والضحك، والتقاط الروائح، وفعل كل ما عقلك يريد، دون أن تنسى، بحسّك، أنك تبحث عن اللبلاب، وأن هناك عاصفة. /3/ أشتاق، هذا كلّ ما أفعله. لا أعرف بدقّة ما أنا مشتاق له، كلّ شيء، لا شيء، الشّوق أحيانًا يبدو كنوعٍ وخّازٍ من الجّنون، الوجود يتغيّر بسرعة احتراق السّگائر، أشتاق أشياء لم تعد موجودة، لن تعود، أعرف هذا، وأشتاق. مرّات أشتاق أشخاصًا محدّدين في أماكن وأوقات محدّدة، أماكنًا صنعت لي ذكريات صلبة ما تخلّصت منها، ثم اختفت الأماكن، وتعاظمت الذكريات. أشتاق حتّى أشخاصًا لم أعرفهم، غرباء كانوا يمرّون قربي بشكلٍ مستمرّ، وبشكلٍ مستمرّ كانوا ذات الغرباء، ألا يجعلهم هذا أقرب قليلًا؟ لا؟ هناك من كنت أراقبهم في المقاهي، أو من كانوا يظهرون لمرّة وحيدة ثمّ لا أنساهم. أشتاق أن أفكّر في كلّ مرّةٍ تجاوزت فيها كلّ تلك القرى الصغيرة، عمّا سيصير لو تحرّكت أيّ قرية قليلًا، انزاحت مترًا مثلًا، عن سبب وجود القرى في أماكنها، لا أقرب ولا أبعد، عمّن اختار أوّل الطّرقات، من وجد الماء وقال هنا سنعيش، عن سبب خلوّ مساحات هائلة من البيوت. أشتاق أن أمرّ، بكلّ تلك القرى الصّغيرة، وأن أتخيّل كيف سكّانها يضحكون. لكنّ كلّ شيء يذوي بسرعة احتراق السّگائر، والأيّام غريبة، ونحن فيها غرباء، نشتاق. ننسى طبعًا، ما الذّكريات؟ الآلات وحدها تسجّل كلّ شيء. لا أذكر كلّ ما اختلفنا عليه، كلّ ما حكينا عنه، كلّ ما أضحكنا، كلّ ما بكينا لأجله، لا أعرف، أشياء كثيرة، مواقف كثيرة، قسوة ورفق، صعوبة وسهولة، جوع وشبع، طرق واضحة ومتاهات، تفاصيل بلا انتهاء، ذكريات بحجم كوكب صغير سكنّا فيه فترة ثمّ اختصمنا، لا أعرف، لا أذكر كلّ شيء، حتّى ما أذكره قد أكون دون وعي اختلقته أو مسحت منه. أذكر فقط كيف كنت أهتاج لمّا أراك.
هكذا مات حسن، العاطفيّ الجّميل، الرّقيق، الحسّاس، هذه هي قصّة حسن الذي لم يستطع تغيير وجه العالَم.
الهدوء، أثناء عاصفة، هو أن تكون قادراً، على الإنصات، والمشي، والتحدث، والضحك، والتقاط الروائح، وفعل كل ما عقلك يريد، دون أن تنسى، بحسّك، أنك تبحث عن اللبلاب، وأن هناك عاصفة.
أشتاق حتّى أشخاصًا لم أعرفهم، غرباء كانوا يمرّون قربي بشكلٍ مستمرّ، وبشكلٍ مستمرّ كانوا ذات الغرباء، ألا يجعلهم هذا أقرب قليلًا؟ لا؟
ننسى طبعًا، ما الذّكريات؟ الآلات وحدها تسجّل كلّ شيء.
/4/ يذهبون كانوا، أصدقاء لي، يلتقون ويمشون قرب النّهر، يُخبرون قصصهم، ما حدث وما يشتهون حدوثه وما سيفعلونه، أمشي كنت معهم، صامتًا، أسمعهم ولا أسمعهم، قربهم مشيت فقط، وما كان لديّ ما أقوله. والعوائل، تعوّدَت إحضار أبنائها للأعراس والمآتم، والجميع ما زال شديد الحفظ والتّكرار لمجاملات الأعراس والمآتم، وأنا بينهم أتجوّل اعتدت صامتًا، أراقب وجوههم، أبكي إن بكوا، وأضحك معهم، وليس عندي ما أقوله. أمّي تسألني عن الطّقس كلّ يوم، وتجيب كلّ يوم: يبدو باردًا، قرأت الأخبار، متى ستأتي؟، يقولون أنّ الجبهات أغلقت، سيفتتحون جامعات جديدة، هل تعمل؟..، وعندما تصمت هي لحظة، أصمت، ثم تتابع، وهي تعرف، أنّ الطقس بارد فقط، وأنا، لا جديد عندي، ما عندي ما أقوله. أحببتُ وفشلتُ في أن أصبح حبيبًا جيّدًا، ما عرفت يومًا لحبيب ما أقول، مرّة كنت على وشك قول "أحبّك"، وقالت: "شششش قبّلني". خوّفني جنديّ يومًا، سألني استرحامه ثمّ رشوةً ثمّ هزّ كتفي ثمّ صرخ وسكت، وبقيت ببطء أراقب سلاحه ثمّ أنظر في وجهه ثمّ أراقب سلاحه، مشيتُ وأشعل هو سيجارة، أشعلت واحدة وأنا أفكّر، ماذا كنت لأفعل لو ما تركني أمضي؟، أنا اليوم كما كلّ وقت، لا شيء لديّ لأقوله. مات أصدقاء وسافر أصدقاء، لم يعرفوا يومًا كم أحببتهم، لم يكن عندي بينهم ما أقوله. هذا عن اللاشيء، أنا لا شيء عندي لأقوله.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image