حدّثنا الكثيرون عن الموت، البعض قال محطّة ومعبر لعالمٍ آخر، وقليلون قالوا عنه أنّه نقطة النهايّة التي ليس بعدها نقاط أخرى… كلّ حسب ما يعتقده وما يؤمن به أو ما اعتاد على سماعه غالبًا في قصص الأهل والسابقين، ولكن بعض السيناريوهات الأخرى للموت قد تُخفى علينا لسبب أن الراوي غريب عنا وروايته لا تنتمي إلى أحاديث جلسات طفولتنا. ولعلّ عند كل مرة نقرأ كلمة “الموت" أو نسمعها، يُدركنا الهلع، حسنًا.. ربما ذكرى سيئة لوداعٍ قريب أو هاجس دخول ذلك الضيف المفاجئ إلى منازلنا تُفسر هذا الخوف الشديد منه. لكني أحاول هُنا في مهمة غاية في التعقيد والصعوبة البحث عن أي علامات من الجمال والإثارة في ظلّ هذا الوحش الذي لا يأبه لمشاعرنا دائمًا، نعلم بأنه حزين..صادم..مرير.. فهل من الممكن أن يكون الموت جميلًا ولو في رواية واحدة من تلك الروايات الغريبة التي أنا بصدد أن أحكيها لكم؟ آمل ذلك، ودون أن أحدد أيّ قصة تعود إلى أيّ مُعتقد، لننطلق في رحلتنا الهادئة بهدوء الموت ذاته.
السيناريو الأكثر جماهيريّة؛ البعث والخلود
هُنا يكون الموت مجرد عمليّة انتقاليّة تفصل بين جسدك وبين ما سُميّ بالروح غير المرئيّة، إذ تُكمل تلك الروح في رحلتها نحو السماء غالبًا، حيث تخضع لمحاكمة من شأنها تحديد مصيرها في الدار الأبديّة ما بين طريقي الثواب والعقاب، الجنة والنار، الداخلين إلى الملكوت والمحرومين منه، إلى كل تلك المُسميات.لكني أحاول هُنا في مهمة غاية في التعقيد والصعوبة البحث عن أي علامات من الجمال والإثارة في ظلّ هذا الوحش الذي لا يأبه لمشاعرنا دائمًاوفي بعض العقائد يكتفي أتباعها بالإيمان بالطريق الأوّل فقط؛ وهو نيل الجائزة عن تحملهم لمعاناة الحياة بتوفير جميع متاعها في حياة أخرى لا تنتهي أبدًا، ولا يُعاني من نجح في الوصول إلى هناك من متاعب الحياة الاعتياديّة، أما عن هؤلاء الذين عاثوا فسادًا في الحياة الأولى فيتم حرمانهم من البعث تجنبًا لمزيد من تلك الممارسات داخل المقر المثاليّ الجديد.
سيناريو تناسخ الأرواح
وكما هو الحال في السيناريو الأوّل للموت، فتناسخ الأرواح يحظى بتأييد كبير من طوائف عديدة أيضًا، ولكن الأمر معقّد قليلًا في الاختلافات بين طريقة الحساب والعقاب على حد سواء. وبقيت خاصيّة الثواب ثابتة، وتناسخ الروح هو ببساطة أعادتها مُجددًا بعد فناء الجسد بالموت لتسكن جسدًا جديدًا لجنين يبدأ في رحلة الحياة مرة ثانيّة، وبالطبع لا يحمل معه أيّ ذكريات من الحياة السابقة. أما الحساب ذاته فله عدة تصورات، منها أن كلّ ما يفعله الإنسان يتم حسابه آليًا ويوضع في كفة ميزان أو خضوع الإنسان للطريقة الاعتياديّة في الحساب على يد قضاة، وأخيرًا مرور الميت بعدة اختبارات ”سبعة"/ في بعض الأحيان على سبيل المثال، ويتوجب عليه النجاح فيها جميعًا، وفي حال فشله في أي من الطرق السابقة للحساب، يبقى أمامه عدة تصورات أخرى للعقاب، تباينت بين الروح التائهة في الخلاء اللامنتهي والروح المُعذبة، أما الأرواح الطيبة التي اجتازت كل الحسابات والاختبارات بنجاح فسوف يكون مصيرها هو التناسخ، أي إعادة تشغيلها في جسد جديد يولد من أجل جولة أخرى لنشر السلام والخير في أرجاء الحياة بفعل غلبة الخير الذي قدمه، ما أطلق عليه "الكارما".لنمت، ولنُصبح موسيقى أو قصيدة
"قال لي صديق قديم ذات مرة شيئًا قد قرأه منحني راحة كبيرة، لقد قال أن موزارت وبيتهوفن وشوبان لم يموتوا أبدًا، بل أنهم ببساطة أصبحوا موسيقى".. تلك المقولة التي لعب على وترها شخصية "فورد" من المسلسل الأمريكي العالم الغربي "West World" لم تكن مجرد جملة لطيفة كتبها مؤلف النص، ولكنها معتقد وله جمهوره الكبير في آسيا خاصة. فالبعض يؤمن بأن كلمة الموت قد تُرجمت بطريقة خاطئة وأن اللفظ الأفضل لشرح العملية هو التجسّد، والمعنى المقصود هنا مشابه لتلك الفكرة حول عالم الجن والأشباح، إذ يقرر شبح الحضور أحيانًا واحتلال جسد بشري للتلاعب به أو القيام بمهمة ما، ولكن الفرق أن الإنسان هو من يقرر احتلال جسد آخر تلك المرة، ولكي تُصبح الأمور أدق، فإنّه لا يحتل جسدًا بشريًا ولكنه يتجسّد في أشياء أخرى من الجمادات ذات القيمة العظيمة له ولأمثاله، مثل الموسيقى وكلمات الشعر ولوحات الرسم وأحيانًا في أشياء معنويّة كالسعادة التي اعتاد على تقديمها لمن حوله. ولكي يحدث العدل هُنا، فكلّ روح تعود على هيئة ما أفنى صاحبها حياته في اتباعه أو الاستمتاع به، وبذلك فلو أمضى أحدهم سنوات عدة في سنّ السيوف مثلًا، فبعد موته سيصبح سيفًا ويعيش حياة صاخبة دمويّة لا متعة فيها. والخلاصة، إذا أخلصت للموسيقى فسوف تُنتج لحنًا تتداوله الأجيال، وكلما كان عملك أفضل كلما كانت فرصتك للبقاء لسنوات وأجيال عدة أكبر بكل تأكيد، حسب هذا المعتقد، لذا في المرة القادمة التي تستهل فيها رسم الخطوط من أجل لوحتك الجديدة فلتعمل على جعلها خالدة قدر الإمكان لكي تحظى بسنوات من نظرات الإعجاب، ومن يدري قد تكون لوحة الموناليزا تنظر إلينا بالفعل ولكن بعيون "ليوناردو دا فينشي".الحياة المتكررة في كلّ عصر
هل شعرت من قبل بأنك لا تعيش في شخصيتك الحقيقيّة، أو شاهدت فيلمًا تاريخيًا يحكي عن امبراطور قديم وتكاد تقسم بأن هذا الإمبراطور يشبهك أكثر مما تشبه أنت نفسك؟ الاعتقاد في تكرار الحياة لنفس الشخص قد يُجيب على أسئلة عديدة تراودنا أحيانًا مثل إحساسنا بأن نفس تلك اللحظة التي تمرّ علينا كانت قد مرت من قبل بكامل تفاصيلها، وبالرغم من التفسير العلميّ لذلك وإسناده إلى ما يُدعى ”بالديجافو“، إلّا أن هناك تفسير أخر يحصل على إعجاب الكثيرين، وهو أن كلّ منا كان شخصيّة قديمة يومًا ما وكذلك أيضًا كل من حوله عاشوا معه في حياته القديمة ولكن بشخصيات مختلفة، أي أنك من الممكن أن تكون في حياتك القديمة امبراطورًا وحبيبتك الحاليّة هي عدوك اللدود في العصر القديم، وقد يشرح ذلك حجم الصراعات بينكما على كل حال. هذا الاعتقاد لم نتبناه طائفة دينيّة فقط، ولكن حتى أعظم الروائيّين كانوا قد تحدثوا عنه، فباولو كويلو على سبيل المثال وضع في روايته "ألف" سيناريو مشابه لذلك حيث يلتقي بفتاة غريبة على متن قطار ويكتشف فيما بعد أنه قد عرفها من حياة سابقة تعود إلى عصر محاكم التفتيش، حيث كان هو يتابع عن قرب مهمات القضاء على الساحرات (المُفكرات اللاتي اتهمتهن الكنيسة بممارسة السحر) وهي بنفسها كانت ساحرة قاومت ضد رجال الكنيسة والجنود الرومان للاحتفاظ بحياتها، وهكذا لا يُصح للموت هيبته الكبيرة حيث أنه مجرد باب نعبر منه من أجل الاستعداد لشخصيتنا الجديدة.العودة إلى جسد ضحية القتل
سيناريو آخر استهدف من كتبه على ما يبدو القضاء على خطيئة القتل، وهو أن كلّ كائن حيّ يُقدم على قتل كائن حيّ آخر، فإنه عاجلًا أو آجلًا سوف يولد في حياته الجديد على هيئة ضحيته، ليعيش ضعف المعاناة والصراع ضد المخاطر التي تُحيط بها مثلما كان هو السبب في تلك المعاناة من قبل. وعلى عكس باقي السيناريوهات، فالبعث على هيئة الضحايا لم يكن معتقدًا منفصلًا، ولكنه جزءًا من عملية "الكارما"، أيّ أنه ليس مصير كل الأموات لأن بطبيعة الحال قد يعيش المرء حياته دون أن يقتل كائن آخر مطلقًا. لذا لطالما ارتبطت تلك الفكرة بسيناريوهات الموت القادمة من آسيًا، وخاصة تلك التي دعت إلى تناسخ الأرواح، إذ مثّلت فكرة إعادة إحياء أحدهم في جسد ضحيته عقوبة للأرواح الشريرة التي تسعى إلى سفك الدماء للحيوانات والطيور خاصة. وهناك معتقد آخر قريب من هذا ولكنه لا يستوجب القتل كي يحدث، حيث يُبعث الإنسان في حياته الجديدة على هيئة كائن آخر وفقًا لما قدمه في حياته الأولى، فالأخيار عادة ما يُصبحون فراشات والأشرار وضع لهم مصير الحشرات الصغيرة التي تعيش في أرجاء المستنقعات وتُعاني للنجاة بأجسادها الضئيلة مع عدم قدرتها على الهرب بالطيران مثلًا. والآن هل وجدت تفسيرًا مناسبًا لكل هؤلاء الذين يشبهون أحد معارفك الراحلين قديمًا؟ وهل راق لك سيناريو ما يضع بين يديك نهاية للحيرة بشأن ذلك الطفل الذي لم يشاهد أبيه قط ولكنه يتصرف تمامًا مثله؟ ولا نتحدث هنا عن انتقال الجينات ولكن عن تلك الأمور الصغيرة مثل طريقة تناول الطعام والنوم وكل هذه السلوكيات البسيطة، أو مثلًا ستعتقد في المرة القادمة التي تشتم فيها رائحة عزيز لك قد مات من فترة ما أنه من الممكن أن يكون هو شخصيًا قد تحوّل إلى أوراق كان قد كتبها وتركها لك وهي التي تحمل تلك الرائحة؟ أو حينما تتعجب من تصرف حيوانك الأليف المشابه كثيرًا لسلوك بشريّ خالص، سوف تتذكر أنه من الممكن أن تكون بعض الذكريات ما زالت عالقة في ذهنه من حياته السابقة كإنسان؟الموت، نعلم بأنه حزين..صادم..مرير.. فلنأمل هذه المرة أن يكون جميلًا ولو في رواية واحدة من تلك الروايات الغريبة.
قال لي صديق قديم ذات مرة شيئًا قد قرأه منحني راحة كبيرة، لقد قال أن موزارت وبيتهوفن وشوبان لم يموتوا أبدًا، بل أنهم ببساطة أصبحوا "موسيقى".
كل منا كان شخصيّة قديمة يومًا ما، وكذلك أيضًا كل من حوله عاشوا معه في حياته القديمة ولكن بشخصيات مختلفة، أي أنك من الممكن أن تكون في حياتك القديمة امبراطور وحبيبتك الحاليّة هي عدوك اللدود في العصر القديم، وقد يشرح ذلك حجم الصراعات بينكما على كل حال.
تلخيص شخصيّ
أوّلًا في رؤيتنا لأمواتنا، وأن الجمال لا يكمن فقط في فكرة البعث والالتقاء بهم مجددًا، فقد يكونوا بالفعل يعيشون الآن حياة أخرى على هيئة فراشة ملوّنة تهيم في جنة من الورود بأمان، أو أصبحوا على هيئة ما كانوا يطلبونها بشغف، فتحوّلوا إلى نوتة موسيقيّة تركوها لكم، أو سعادة نشروها بينكم يومًا ما. وإذا كنت تخشى أن يعيش أحبابك مصير الحشرات الذي تحدثنا عنه، فالعقاب في البعث والخلود أشد قوة وألمًا، وهنا يكون مصيرهم الجديد هذا أقل ضررًا عليهم بالتأكيد. ثانيًا في رؤيتنا لأنفسنا وأن كلّ ما نُقدم على فعله لا يُكتب فقط من أجل تلقي الحساب، بل يرسم مستقبلنا الجديد بحذافيره، ما نفعل وما نقول وما نترك وما نأخذ، كل تلك التفاصيل قادرة على شفائنا من المعاناة في حال وُجدت حياة أخرى لنا، لذا لنعيش تلك الحياة الآنيّة بأقصى طريقة جميلة نستطيعها حتى ترسم مستقبلنا - الذي لا نعرفه - بذات الجمال.. ربما.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...