ندخل صالة المنزل الأحمر في باريس، لنشاهد منحوتة ضخمة لآلة بجناحين خشبيين، يمكن للفرد أن يمتطيها ويطير، الجناحان أنجهزهما الفنان الروسي فلاديمير تاتلين للمرة الأولى في الثلاثينات، وأعيد بتصميمها بصورة معاصرة، ويحضران ضمن معرض بعنوان "التحليق: الحلم بالطيران".
نشاهد في المعرض، مجموعة من المنتجات الثقافيّة التي تتناول المحاولات الفاشلة للطيران، إذ نرى آلات وصور وفيديوهات ونصوص ومخططات، للجهود البشريّة للتحليق، وتجاوز لعنة الجاذبيّة، تلك التي تقيد الجسد، وتحرر المخيّلة.
هذه النزعة للتحليق والارتقاء الجسديّ، نراها أيضاً في النصوص الفانتازميّة والدينيية، التي يبدو حين قراءتها أن هناك في الأعلى حقيقة ما، إن تمكن الفرد من الوصول إليها بلحمه، حتى يتلمس قوى تكشف له عن دفائن الكون، وخصوصاً أن الطيران ذو أثر معرفي، يمكن إثره تغيير العالم أو التأسيس لعالم جديد، وأدت هيمنته إلى إهمال أشكال أخرى من تحرير الجسد من الجاذبيّة، كالطفو، والقفز لمسافات طويلة، أو المشي المتخفف بين الأرض وفوقها بقليل.
وفي سفر التكوين نقرأ عن صعوده للمرة الثانية ورفعه نهائيا إلى السماء: "وسار أخنوخ مع الله ولم يكن بعد ذلك لأن الله أخذه"، وكأن رحلته الأخيرة أفقدته شرطه الإنسانيّ وبقي أسير الرباني العلويّ.
وهناك ما يعرف بنصّ "صعود أشعيا" الذي اعتبر فترةً جزءاً من العهد القديم، والذي يحكي كيف أن النبيَّ "أشعيا" صعد إلى السماء وقابل اللهَ والنبيَّ أخنوخ ثم عاد إلى الأرض. وفي سفر الملوك الثاني بالكتاب المقدس نقرأ عن صعود النبي إيليا (إيلياس) إلى السماء: "وفيما كانا سائرين وهما يتحادثان، إذا مركبةٌ نارية وخيلٌ نارية قد فصلت بينهما، وصعد إيليا في العاصفة نحو السماء".
في السياق العربي الجاهلي، نقرأ أن الشاعرَ زهير بن أبي سلمى، (520 - 609م) :"كان نظاراً متوقياً، ورأى في منامه آتياً أتاه. فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتُضر قصَّ رؤياه على ولده"، بحسب ما جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني.
ويأتي هذا الحلم بالطيران أو "الرؤيا" بوصفه تبشيراً بالإسلام، وكأن الطيران هنا مجازي، ووليد رؤية مستقبلية في سبيل اليقين القادم، وكأن الحقيقة حكر على جغرافيات "الله"، من يصلها، يعلم ما سيحدث أو يتلقى علوماً لا يمكن نيلها في الأرض.
وهذا ما يتضح في رحلةُ الإسراء والمعراج، تلك القصة التي ذُكر جزءٌ منها في القرآن، وذكر أغلبها في الأحاديث النبوية، والتي تحكي عن اصطحاب الملاك جبريل للنبي محمد في رحلةٍ من مكة إلى القدس، ثم إلى السماوات السبع، ومقابلة الله، ممتطياً كائناً خارق السرعة يسمى "البراق"، في ليلة واحدة.
المميز في هذه الحكاية لا أصالتها، كونها موجودة في الديانات والقصص السابقة، لكن الجدل العقلي الذي أثارته ومازالت تثيره، والمرتبط بحقيقة الطيران ذاتها، وهل عرج النبي بجسده فعلاً، أم أن الأمر كان مجرد حلم.
وهنا تتنوع الروايات، وأشكال التفسير التي ترى أن محمد بشريّ لا يخترق النواميس بل تأتيه الرؤيا، والبعض يرى أنه قادر على ذلك بأمر من الله، وهنا يعود التساؤل عن جدوى البراق لو كان الإسراء روحياً، فلم الدابة؟ فلابدّ أن الإسراء والمعراج كان جسدياً، حقيقياً، حسب بعض التأويلات اللغوية.
والمثير للاهتمام أيضاً هو ما رآه محمد حين وصل لأقصى مسافة في السماء، حيث سدرة المنتهى،"عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ(16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ"، وهنا تختلف الشروحات ومعانيها، إذ لا نعلم بدقة ما رآه، وكأن أقصى السماء عصي على الإدراك البشري حتى لو كان يقف المرء قاب قوسين أو أدنى.
رحلات الأزمنة الغابرة: الطيران قبل التوحيد
يحرر الطيرانُ البشريّ من قيد الأرضي والناسوتي، ويجعله شاهداً على الحقيقة، فالحلم الجمعيّ بالطيران بدأ منذ لحظة إدراكنا لعجزنا، وأن هناك ما يفوقنا، وبعيداً عن الرؤى الدينيّة والتأملية، يدرك البشريّ أن تكوينه الفيزيائيّة عاجز عن التحليّق، ولا بد من وسيط، كائن قادر على التنقل بين قوانين الأرضي المحدودة ومساحات العلويّ اللانهائيّة، لنرى كائنات بعكس ماكينة الإله في المسرح اليوناني، تحسم القلق والصراع، لا على الأرض، بل عبر الارتقاء بالفرد إلى أعلى، تحرره من شرطه البشريّ وتلوح له بالمتسامي العلويّ. وهذا ما نراه، في الحكايات الشائعةِ في الحضارة السومرية بالعراق، حيث صعدُ الملك إيتانا إلى السماء، وارتقى عل ظهر طائرٍ كالنسر، وسافر إلى السماء لجلب "نبتة الولادة"، ليشفى من العقم وينجبَ ابنه "بالح"، وبعد أن ابتعدا عن الأرض، نقرأ الحوار التالي بينهما: "يسأل النسر: يا صديقي، انظر إلى الأرض وقُل لي كيف تبدو؟ فردَّ إيتانا: لقد صارت الأرضُ مثلَ حديقةٍ، والبحر ليس أوسعَ من سطل ماء. وبعد الارتقاء إلى مسافة أكبر، عاد وسأله النسر: يا صديقي، انظر إلى الأرض وقُل لي كيف تبدو؟ فردَّ: إني أنظر إلى الأرض فلا أراها والبحرُ الواسع قد غاب تماماً". يذهب البعض في التأويل، إلى أن إيتانا صعد إلى السماء في مركبة فضائية على شكل طائر، بسبب دقةِ وصفه لشكل الأرض كلما ازداد ارتفاعُه عنها، وكأنه يرتقي أو ينظر من ارتفاع هائل، ومن هذه الزاوية بالذات تبدأ نظريات الكائنات الفضائية، و تاريخ البشريّة اللاديني واللاعلمي، والذي يرى فينا نتاج كائنات أسمى منّا، زرعتنا على الأرض، لنجد أنفسنا أمام ديانات وأنظمة إيمان كالساينتولجي. عام 1958، أصدرت مؤسسةُ سميثسونيان البحثية بياناً، ذكرت فيه أن سكان الإسكيمو أتوا بالأساس من الجنوب الدافئ في هجرةٍ جماعية منذ آلاف السنين، لسببٍ ما، لكن المثير للاهتمام، أن لأغاني الفلكلورية للأسكيمو، تقول "إنهم حُملوا منذ ألوف السنين على طيورٍ ضخمةٍ مصنوعةٍ من الحديد، ثم أنزلتهم في الشمال، وعادت لتجلبَ غيرهم". وكأن حلم الطيران الجسديّ كان فيه خلاصهم، لا مجرد ارتقاء لمساحات يمكن فقط تلمسها، بل بداية حضارية، يلعب فيها الطيران دورا في بداية البشريّة، لا بوصفها سقوطاً من السماء الإبراهيميّة، بل انتقالاً عبر السماء إلى مساحات أرضيّة ملائمة لاستمرار الحياة.جغرافيات المقدس العلويّة
تحتكر الديانات الإبراهيمية السماء ومساحاتها، وتسييّرها رغبات الواحد، اللامتعدد، الذي يتحكم بمن يدخل ومن يخرج منها، ويذكر لويس صليبا في كتابه "المعراج من منظور الأديان المقارنة"، ما أطلق عليه "آداب الرؤيا"، التي صاغها رجالُ دين، ونقرأ فيها حكاياتٍ كثيرةً عن صعود أنبياءٍ إلى السماء "أحياء" بصحبة ملائكة، لمقابلة الرب. منهم أخنوخ الذي صعد السماوات السبع والتقى مع الله، ثم عاد إلى الأرض. كانت رحلة أخنوخ في سفينةٍ في الفضاء، ووصف فيها سبعة كواكب كالجبال، ومداراتها غير الدائرية، واختراقه "الحائط الكريستالي المحاط بالنار والشرار قبل دخوله السماء".من جغرافيات المقدس العلوية "وفيما كانا سائرين وهما يتحادثان، إذا مركبةٌ نارية وخيلٌ نارية قد فصلت بينهما، وصعد إيليا في العاصفة نحو السماء"
وفي سفر التكوين نقرأ عن صعوده للمرة الثانية ورفعه نهائيا إلى السماء: "وسار أخنوخ مع الله ولم يكن بعد ذلك لأن الله أخذه"، وكأن رحلته الأخيرة أفقدته شرطه الإنسانيّ وبقي أسير الرباني العلويّ.
وهناك ما يعرف بنصّ "صعود أشعيا" الذي اعتبر فترةً جزءاً من العهد القديم، والذي يحكي كيف أن النبيَّ "أشعيا" صعد إلى السماء وقابل اللهَ والنبيَّ أخنوخ ثم عاد إلى الأرض. وفي سفر الملوك الثاني بالكتاب المقدس نقرأ عن صعود النبي إيليا (إيلياس) إلى السماء: "وفيما كانا سائرين وهما يتحادثان، إذا مركبةٌ نارية وخيلٌ نارية قد فصلت بينهما، وصعد إيليا في العاصفة نحو السماء". الإنسان والفضاء.. علاقةٌ أزليةٌ غامضة دعمتْها الأديان والأساطير
الطيران الإسلامي اليتيم
في السياق العربي الجاهلي، نقرأ أن الشاعرَ زهير بن أبي سلمى، (520 - 609م) :"كان نظاراً متوقياً، ورأى في منامه آتياً أتاه. فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتُضر قصَّ رؤياه على ولده"،
في السياق العربي الجاهلي، نقرأ أن الشاعرَ زهير بن أبي سلمى، (520 - 609م) :"كان نظاراً متوقياً، ورأى في منامه آتياً أتاه. فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتُضر قصَّ رؤياه على ولده"، بحسب ما جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني.
ويأتي هذا الحلم بالطيران أو "الرؤيا" بوصفه تبشيراً بالإسلام، وكأن الطيران هنا مجازي، ووليد رؤية مستقبلية في سبيل اليقين القادم، وكأن الحقيقة حكر على جغرافيات "الله"، من يصلها، يعلم ما سيحدث أو يتلقى علوماً لا يمكن نيلها في الأرض.
وهذا ما يتضح في رحلةُ الإسراء والمعراج، تلك القصة التي ذُكر جزءٌ منها في القرآن، وذكر أغلبها في الأحاديث النبوية، والتي تحكي عن اصطحاب الملاك جبريل للنبي محمد في رحلةٍ من مكة إلى القدس، ثم إلى السماوات السبع، ومقابلة الله، ممتطياً كائناً خارق السرعة يسمى "البراق"، في ليلة واحدة.
المميز في هذه الحكاية لا أصالتها، كونها موجودة في الديانات والقصص السابقة، لكن الجدل العقلي الذي أثارته ومازالت تثيره، والمرتبط بحقيقة الطيران ذاتها، وهل عرج النبي بجسده فعلاً، أم أن الأمر كان مجرد حلم.
وهنا تتنوع الروايات، وأشكال التفسير التي ترى أن محمد بشريّ لا يخترق النواميس بل تأتيه الرؤيا، والبعض يرى أنه قادر على ذلك بأمر من الله، وهنا يعود التساؤل عن جدوى البراق لو كان الإسراء روحياً، فلم الدابة؟ فلابدّ أن الإسراء والمعراج كان جسدياً، حقيقياً، حسب بعض التأويلات اللغوية.
والمثير للاهتمام أيضاً هو ما رآه محمد حين وصل لأقصى مسافة في السماء، حيث سدرة المنتهى،"عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ(16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ"، وهنا تختلف الشروحات ومعانيها، إذ لا نعلم بدقة ما رآه، وكأن أقصى السماء عصي على الإدراك البشري حتى لو كان يقف المرء قاب قوسين أو أدنى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.