بعد كلّ ذلك، عليّ الآن أن أعرف ماذا أفعل بهذا الألم في قلبي. أذهب إلى الحمّام، أشعر بالغثيان، أتقيأ. أتصل به قائلةً: لقد حدث.
- ماذا حدث يا حبيبتي.
- ما كنتُ دومًا أخشاه.
- تصوّرْ أنه كان عليّ الاستعانة بقاموسٍ مرارًا لأنني لا أعرف مفرداتِ التعذيب بالألمانية. يا للروعة، إنه عملُ أحلامي!
- آه، حسنًا.
- إنه مجرّد تعبير لغويّ.
- إذًا لا تستخدمه، فلا يوجد أيّ شيء حسَنٌ بالموضوع.
أنا أصل إلى البيت محطّمة؛ لا أستطيع أن أبتسم؛ لا أستطيع أن ألعب مع أطفالي؛ لا أستطيع أن أغنّي لهم قبل النوم، صوتي يختنق وأتشردق.
المسألة نسبية؛ نحن محرومون فقط بقدرِ ما يملكه الأشخاصُ من حولِنا، عندما نقارن أنفسَنا بهم.الشخص أمامي إن كان صادقًا، إن صدّقته تعتريني رغبةٌ أموميّة عارمة باحتضانِه لامتصاصِ كلّ ذلك الألم. ولكن، على السطح، أكتفي بقناعي المهنيّ. يصبح صوتي خافتًا أكثر أثناء طرح الأسئلة، وكأنني لا أريد لصوتي أن يُسمع. يحلّ فيّ هدوء غير مألوف. الدموع تنهمر في قلبي فقط، ولا تصل عينيّ أبدًا.
يا لي من مدلّلة رخوة وجبانة، أشفق على نفسي أنه عليّ أن أستمع لمُعاناتِهم، فحسب."خلص"، سوف أترك هذا العمل من الغد. أنا لم أخلق لهذا العمل، أنا رقيقة جدا، أنت لا تفهم، تركيبتي النفسية لا تسمح لي. المحققون الآخرون لا يعبؤون، بل بعضهم يضحكون ويهزؤون من الحالات التي تصلهم. يقولون: "بكرا بتتعودي". مرّ شهران على اليوم الذي أنزلتني فيه الوزيرة إلى قسم العمليات، وأنا لا أتعود. لا، بل أنا أتألم أكثر في كلّ مرة. كأنك تجرح مكانا مجروحًا مسبقًا. للتروما طبقاتٌ طبقات.
- تعالي إلى البيت فنتحدث. كلّ شيء سيكون على ما يرام. أنتِ قوية.
- لم أعد أريد سماعَ أنني قوية. ماذا تعني أنت قويّة، أن أفقد الإحساس مثلًا!
- لا يمكن أن تتوقفي عما بدأتِه. أنت تساعدين هؤلاء الناس. أسبوعان فقط وتعودين إلى مكتبك في الوزارة.
- لا، لا. بإمكان أحدٍ غيري أن يساعدهم. أنا لم أعد أحتمل، أفضّل العودة لتنظيم مهرجان البرليناليه، الإدارة الثقافية أفضل لي. هناك الكثيرون من الذين يستطيعون القيام بدوري؛ ليس من الضروريّ أن أكون أنا. معي وبدوني العمل سيستمر، ومن يستحق اللجوء سيحصل عليه بدون صوفي فريدريش.
- ليست هذه نظرتك للأمور حبيبتي. أنتِ مرهقة. أخرجي إلى الطريق الآن لتريِ الضوءَ قبل غياب الشمس. تعالي إلى البيت، الأطفال بخير وسعداء، لقد أكلوا وهم يلعبون الآن، انظري اليهم فقط، وستشعرين بتحسّن. إنهم يشتاقون إليك.
- بابا!
- كيفك يا صوفي؟
- بابا انا منيحة.. بس..
- بس شو؟
- بابا أنا ما بقى فيّي أتحمّل هالشغل من كل القصص اللي عمْ بَسمعها.
- صوفي من أي متى إنتي هيك بتِنهاري بسهولة؟ أنا بعرفك أقوى من هيك.
- عم بستفرغ، مش عم باكل، مش عم نام... كيف بقى ممكن عيش هيك وأنا عم بسمع اللي عم بَسمعُه، وعم بعرف اللي عم بَعرفُه؟ كيف ممكن كفّي حياتي عادي، وأنا بعرف إنّه بكل لحظة فيه إنسان هلق عم يتعذّب؟
- بابا انتي ما بتشوفيني كيف أنا كمّلت حياتي ونضالي أكثر صلابة من الأوّل؟ خلّي يكون عندك شوية ثبات.
- بابا أنا مش إنت، يا ريت كنت بقوتك! خلص رح أترك الشغل عالأرض بكرا. رح قِللُن برجع عالمكتب أو أنا فالّة.
أنَسِيتِ يا صوفي حين كانت سهى بشارة مثالًا للشجاعة والقوة في سنيّ طفولتِكِ ومراهقتِك؟أنتِ تعرفين تماما أنك لست مجبرة على القيام بهذا العمل، أو أيّ عملٍ آخر، وبإمكانك التوقّف عندما تشائين. ولكن هل هذه صوفي التي ربيتُها؟ أنت لا تستسلمين عادةً، وما عدتِ صغيرة. تعرفين أن هذه الأمور تحدُث في الحياة، وأنت تساعدين هؤلاء الناس للهروب من جحيمِ التعذيب وبدءِ حياةٍ جديدة.
- ولكن ماذا عن الجحيم الذي أدخل أنا فيه؟ هناك زملاء كُثرٌ يقومون بذلك دون دفعِ فاتورة نفسية كبيرة كالّتي أدفعها. أنا أصل إلى البيت محطّمة؛ لا أستطيع أن أبتسم؛ لا أستطيع أن ألعب مع أطفالي؛ لا أستطيع أن أغنّي لهم قبل النوم، صوتي يختنق وأتشردق.. أطفالي بحاجةٍ لأمّهم. سألتني أوليفيا البارحة: ماما لماذا أنتِ حزينة؟ كلُّ براءة أطفال هذا العالم، والفرحُ الذي تلِدُه، تصبح وهمًا وبخارًا أمام حقيقة وجود التعذيب القاسية.
- لا أعرف لماذا يقحمون بي في هذه القضايا فقط لأنني أعرف اللغةَ العربية، ألذلك كُتب عليّ أن ترافقني لعنةُ الحروب واللجوءِ والإرهاب وكلّ ما في هذا الكون من مآسٍ؟ كأني أحمل همَّ اللغة، وهمّ أهلها وأرضها.
- الحياة ليست للواقفين على الحياد، وعهدي بك أكثر شجاعة. الخيارُ، خيارُك طبعًا.. قبّلي حفيديّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.