شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الباعة المتجولون في الذاكرة المتعبة

الباعة المتجولون في الذاكرة المتعبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 14 سبتمبر 201812:51 م
في أيام تشبه الأيام التي نمرُّ بها، وتمرُّ بها بلادنا، يكون الكلام صعبًا. تكون الكتابة ضربًا من المستحيل ونحن نرى الموت يحوم حول أحبابنا وحول بيوتنا وشوارعنا، ونحن نرى كيف يقذف الدكتاتوريون وجيوشهم وشبيحتهم وميليشياتهم النار على البسطاء والفقراء والناس الذين يبحثون عن حياة تشبه الحياة. يكون التفكير في شيء آخر غير الملايين من اللاجئين السوريين ومئات الآلاف ممن ماتوا، وممن اختفوا اعتقالًا أو خطفًا في تلك البلاد الحزينة شيئًا أشبه بالمستحيل. حين يفكر المرء بالدكتاتوريات المصريّة والخليجيّة أو باليمنيين الذين يشبهون السوريين في كلّ شيء، أو حين يفكر المرء بالعبوديّة والحرب الليبيّة، تصبح الكتابة رفاهيّة صعبة التحقيق.

عمّاذا نكتب دون أن نصاب بالجنون؟

لهذا نجتّر ذاكرتنا لنكتب عن حياتنا القديمة، أو الأحرى بي القول لنكتب عن الصور الحلوة القليلة من حياتنا الماضية؛ حياتنا التعيسة التي كان الدكتاتور يتحكم بجميع مفاصلها. كنّا في تلك الحياة نصنع لأنفسنا فرحًا خفيًا من أشياء صغيرة يكاد الإنسان لا ينتبه لها. INSIDE_StreetVendors لا أعرف إن كان الفرح حقيقيًا أم إنّ ذاكرتي تفعل فعلها وتذكرني بأشياء تبدو جميلة؟ هل كان صوت بائع البوشار الذي كان  يُسمع في المساءات في شوارع حارتنا جميلًا أو كنت أكرهه حين يمرّ لأنّ صوته طغى على كلّ الأصوات الأخرى؟ كان الباعة المتجولون جزءًا من تفاصيل حياتنا اليوميّة؛ باعة التمر هندي والعرقسوس الذين يزينون شوارع دمشق في الصيف بثيابهم التقليديّة، باعة الفول بعرباتهم التي يدفعونها في الشوارع المختلفة، باعة الذرة المسلوقة الذين ينادون بصوت عالٍ يطغى على كل صوت آخر في الشام، باعة أطعمة الأطفال من البسكويت وصولًا إلى غزل البنات. كان أولئك يزينون شوارعنا وحارتنا، باعة بسطاء وأناس طيبون، لكن في بلاد مثل بلادنا، حيث لا يثق المرء بجاره وأخيه خوفًا من أن يكون مخبرًا سريًا يعمل مع واحد من أفرع الأمن الكثيرة، كان يقال إنّ معظم الباعة المتجولين يعملون مع المخابرات لأنّهم قادرون على الدخول إلى الكثير من الشوارع ومعرفة الكثير من التفاصيل عن الناس. بالقرب من بيتنا في الشام، ولعن الله من حرمنا من الشام، كان يوجد مسبحان صيفيان. الأكثر تأثيرًا على حياتي كان المسبح الواقع في شارع برنية في منطقة ركن الدين وكان اسمه مسبح الفيحاء. كنت أذهب مع إخوتي، وأصدقائي لاحقًا، العديد من المرات في كلّ صيف رغم إنّني لست بالسبّاح الماهر.
كنّا في تلك الحياة نصنع لأنفسنا فرحًا خفيًا من أشياء صغيرة يكاد الإنسان لا ينتبه لها
كان بائع الفول النابت يقف بعربته أمام مدخل قلعة دمشق في الطريق الواصل إلى مدخل سوق الحميديّة ينادي على طعامه الشهي الرخيص
عند خروجنا من المسبح كنّا نتسابق للوصول إلى بائع المعروك وشراء قطعة أو اثنتين. والمعروك هو خبز مدوّر محشو بالتمر، هكذا أتذكره. كنّا نلتهم المعروك غير عابئين بتحذيرات أهلنا عن الطعام المكشوف والأمراض التي من الممكن أن يسببها. كان بائع الذرة المسلوقة والتي يسمونها في الشام ريانة يدفع عربته الثقيلة، الممتلئة بالذرة البيضاء والصفراء الموضوعة في الماء المغلي، صعودًا في حارات الجبل الدمشقي. كان يصل إلى حارتنا مناديًا: ريانة.. ريانة، فنعرف أنّ الوقت عصر وأنّ وقت أكل بعض الذرة قد حان. كان البائع، على ما أذكره، شابًا مفتول العضلات ذي صوت جهوري، ولطيفًا في تعامله مع الناس. INSIDE_StreetVendorsSyria1 بائع التمر هندي الذي كان يقف ساعات طويلة في شارع الثورة، مرتديًا ثيابه الدمشقيّة التقليديّة، حاملًا إبريقه النحاسي الضخم على ظهره، واضعًا الكؤوس الزجاجيّة على حزامه يصيح بصوت عالٍ يزيد من صخب الشارع الصاخب أساسًا: تمر هندي بارد، تعا طفي الشوب يا يوب. بائع الفول النابت كان يقف بعربته أمام مدخل قلعة دمشق في الطريق الواصل إلى مدخل سوق الحميديّة ينادي على طعامه الشهي الرخيص. كنّت أحب تناول بعض الفول هناك ليلًا، حين يخف زحام المكان. كان البائع يؤنسنا بأحاديثه عن تفاصيل يومه أو عن الأشخاص الذين يقابلهم خلال ساعات وقوفه الطويلة هناك. هكذا هي حياتنا اليوم، نجتر ذاكرتنا كلّما اشتقنا إلى البلاد، نبحث في أزقة هذه الذاكرة بحثًا عن صورة جميلة تذكرنا بمدننا التي حُرمنا منها. صورٌ لأناس ربما ماتوا أو ربما هُجروا أو ربما انضموا للمتقاتلين في البلاد، لكنهم بقوا في ذاكرتنا مثلما كانوا. أناس يتعبون طوال النهار وقوفًا بغض النظر عن حرارة الطقس أو برودته، يصيحون بأصوات تُتعب الحناجر. لطيفون، بسطاء، كلّ همهم هو الحصول على بعض المال في نهاية اليوم قادر على إعالة عائلة فقيرة لم تعطها البلاد شيئًا سوى التعب والقهر والذلّ والمهانة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard