في كل مرة ينفجر موضوع التحرش الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي، تنفجر معه عدة خطابات. بعض هذه الخطابات أصولي ومحافظ، مثل لوم النساء على تعرضهن للعنف الجنسي. وآخر نسوي، مثل الدفاع عن حقوق النساء في المجال العام دون تهديد لسلامتهن الجسدية والعقلية. ولكن هناك بعض الخطابات التي لا يمكننا تصنيفها. أهي أصولية، أم نسوية، أم شيء آخر.
في النهاية تبقى هذه الخطابات نقطة انطلاق مهمة لمناقشة قضايا العنف الجنسي. ولذلك، فالأفضل تفكيكها. من أبرزها «خطاب السلامة العقلية لضحايا وناجيات العنف الجنسي». وهو الخطاب المتعلق بالصدمة التي تختبرها النساء نتيجة تعرضهن لهذا النوع من العنف، وكيف تؤثر عليهن فيما بعد على مستويين شخصي واجتماعي.
"التروما": الانتقال من الوعي البسيط إلى الوعي المُركب
إن افترضنا أن التحرش الجنسي تجربة مؤلمة نفسيًا، فهذا الألم يوسع المدارك، ويفتح الآفاق لما هو بعد التجربة. بمعنى أنه إن كانت النساء أكثر الفئات المتعرضة للعنف الجنسي بسبب هويتهن الاجتماعية، فإن لاختبارهن العنف الجنسي أبعاداً مختلفة، تتجاوز لحظة وقوع العنف أو التحرش، وقد تستمر لسنوات، ولا تغادرهن أبدًا. من هُنا، فإن الصدمة أو «التروما» الناتجة عن التعرض للعنف الجنسي، ترتبط في ذهن النساء بأسئلة مهمة. أحدها هو "لماذا أتعرض أنا للتحرش ولا يتعرض له رجل يمشي في نفس الشارع؟" وأيضًا: "لماذا أتعرض للتحرش في الشارع/ أو في العمل؟" هذه التساؤلات تتفتق في أذهان النساء جميعًا، حتى غير المنخرطات بالعمل النسوي والحقوقي.تكتسب النساء خبرة غير عادية عمّا إذا كان هذا الشخص متحرشًا أو لا، من خلال نظراته، ولغة جسده، وتفاعله مع جسمها في الشارع
كم امرأة توقعت أن الرجل الآتي في الطريق المقابل، سيميل برأسه إليها في أقل من ثانية ليخبرها تفصيليًا، ما يريد أن يفعله بجسمها، ويفعل؟
للصدمة جانب إيجابي في تطوير وعي النساء وجعله أكثر تعقيدًا عن وعي الرجال، بقضية العنف الجنسي.ترتبط تلك التساؤلات بلحظة وقوع العنف والشعور بالاستباحة. لتصل أغلب النساء إلى نتيجة يصلح جدًا تعميمها، وهي أن أجسامهن مُنتهكة في الأماكن العامة. ويقودهن التساؤل إلى ربط هذه الاستباحة لأجسامهن، بوجودهن خارج المنزل؛ أي المكان الذي يُعتقد أنه «مكانهن الطبيعي». فإن خرجت النساء من المنزل، يجب أن يُقدمن أسبابًا واضحة لضرورة الخروج، بالنسبة لذويهن. أما بالنسبة للغرباء في الشارع، فتقع مسؤولية وقف التحرش الجنسي على النساء، مثل شروط الملابس الفضفاضة والرجوع في ساعات ليست متأخرة ليلًا. يُشبه الأمر أن هناك «كود» أو شفرة لوجود النساء في الحيز العام. ولكن المفارقة أن حتى النساء اللواتي يلتزمن بهذا الكود يتعرضن للتحرش الجنسي. تُزيد هذه التساؤلات من وعي النساء بأجسامهن، ويتولد من لحظة الاستباحة وعي مُركب بعلاقة هذه الأجسام بما حولها. لينمو هذا الوعي المُركب مع كل مرة تتعرض فيها هؤلاء النساء للعنف الجنسي. ويُصبح وعيًا أكثر تعقيدًا كلما كان التعرض للعنف هستيريًا؛ أي أنه غير مرتبط بأسباب واضحة، خاصة أنه يتم بمباركة مجتمعية وتبرير عفوي. لهذا التبرير دوره أيضًا في زيادة تعقيد الوعي الذي يتم بشكل ذاتي. في اللحظة التي تقرر فيها المرأة الامتناع عن مشاركة أفراد أسرتها لواقعة تحرش جنسي اختبرتها منذ دقائق، تُدرك فيها أنه سيتم لومها، أو حتى عقابها على تعرضها للتحرش. فتختار الصمت. وفي اللحظة التي تقرر فيها المرأة الرد على المتحرش أو عدم الرد عليه، تُدرك موقعها جيدًا كامرأة في مثل هذه المواقف. في مصر مثلًا، تتعرض أغلب النساء للعنف الجنسي، بغض النظر عن فئاتهن العمرية، طبقاتهن الاجتماعية، عقائدهن الدينية، إلخ. لكنهن يشتركن في كونهن نساء. إن أخذنا تجربة التحرش الجنسي في الشارع كمثال، يمكننا الإبحار أكثر في دور «التروما» من تطوير وعي النساء، مقارنة بالرجال.
البُعد المكاني والاجتماعي «للتروما»
تختبر النساء الشارع في مصر بشكل مختلف تمامًا عن الرجال. فنتيجة لكون التحرش واقعًا يوميًا لهؤلاء النساء، فإن خبراتهن الحياتية ترتبط به، وقد تنطلق منه. فهذا الواقع اليومي يفرض عليهن أن يبقين دائمًا مُتأهبات للتحرش. فتمشي النساء في الشارع وعيونهن مفتوحة على كل رجل في الشارع، ويسألن أنفسهن بشكل لا إرادي، هل هو متحرش أم لا. فتكون النتيجة أن «كل رجل هو متحرش محتمل إلى أن يثبت العكس». هذا الضغط العصبي يحُوّل القلق إلى استعداد دائم للتعرض للتحرش. ويُضاف ذلك إلى خبراتهن الحياتية. بمعنى أن يتحول القلق إلى سرعة تمييز بين المتحرش وغيره. فتكتسب النساء خبرة غير عادية عمّا إذا كان هذا الشخص متحرشًا أو لا، من خلال نظراته، ولغة جسده، وتفاعله مع جسمها في الشارع، حتى لو لم ينطق بكلمة. فكم من امرأة شعرت جيدًا بأن هذا الرجل الذي يقف في المترو، يتحين الفرصة ليقترب منها ويقوم بالاحتكاك بها جسديًا، ويفعل. وكم امرأة توقعت أن الرجل الآتي في الطريق المقابل، سيميل برأسه عليها في أقل من ثانية ليخبرها تفصيليًا، ما يريد أن يفعله بجسمها، ويفعل. لذلك، عند أي نقاش عن الصدمة والسلامة العقلية للنساء جراء تعرضهن للعنف الجنسي، يجب الانتباه جيدًا إلى أن لهذه الصدمة جانبًا إيجابيًا في تطوير وعي النساء وجعله أكثر تعقيدًا عن وعي الرجال، بقضية العنف الجنسي. فمن الأخطاء الشائعة اعتبار النساء غير قادرات على التمييز بين التحرش والمُلاطفة بسبب التروما، وأن ذلك سبب قوي للتعاطف معهن ودعمهن في مواجهة التحرش؛ لأن العكس هو الصحيح. فبسبب التروما، ينتقل وعي النساء ليكون أكثر دقة في التفرقة بين التحرش والأفعال الأخرى. ويمكننا حينذاك استبدال «التعاطف» بـ «إقرار واعتراف» بأحقية هؤلاء النساء في تحديد ما تعرضن له، بناءً على خبراتهن الشخصية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...