في الصف الثالث الابتدائي، وعندما قام المعلم بطرح السؤال المعتاد على الطلاب والذي يقومون بطرحه عندما لا يرغبون بفعل شيء ذي قيمة: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟
وبغض النظر عن فهمي أصلا لهذا السؤال وفيما إذا كنت أميّز المستقبل عن قطعة البسكويت أو منشفة الحمام، إلا أن إجابتي الاستعراضية حددت مصيري للأبد: أريد أن أصبح كاتباً.
أجاب صديقي خالد بأنه يحب أن يصبح حلاقاً، وبينما حقق خالد حلمه وأصبح حلاقاً جيداً، بقيت أنا في وهمي الناقص.
كنت أقرأ بنهم وسرعة ودون كثير تمحيص كل ما كان يقع تحت يدي، كتب للأطفال، جرائد قديمة، مجلات فنية لبنانية سخيفة، كتب للكبار وللصغار على حد سواء.
وطبعاً لم تساعدني بنيتي الجسدية على أن أصبح مجرماً مرموقاً فكان خياري الأرخص أن أكتب، كتبت كثيراً منذ سن العاشرة، مسلسلات مصورة على شاكلة سوبرمان وباتمان، شعراً وقصصاً قصيرة، مذكرات وهمية لعاشق وهمي.
لم أكن أعرف أصلا إن كنت مغرما أم لا لكني ظننت أن الكاتب لا بد أن يكتب عن الحب، توهّمت الحب فكتبت فيه وتوهّمت الأرق فأرقت.
كنت أكتب لأفهم نفسي والعالم، وربما لأجد نفسي وأدافع عن هذا الوجود القلق، وحتى اليوم لا تزال هذه طريقتي الأثيرة في التفسير، لن أفهم شيئا حتى أراه مكتوباً، الكتب هي كل ما يحصل في حياتي، عندما أحببت امرأة أحببتها لأكتب لها قصائد وعبارات غزلية، كل ما عرفت عرفته مكتوبا ومسطراً في جمل وأحرف ولغة، مشاعري لا تكون حقيقية إن لم تكن مكتوبة، حتى ارتكبت تلك الحماقة وسطّرت مشاعري على عقد زواج.
كانت الكتب شحيحة، ومن يملك كتاباً كمن يملك كنزاً أو قنبلة موقوتة، كان من الطبيعي في تلك الآونة أن يذهب الناس إلى السجون لمدد تتجاوز العشر سنوات لمجرد اقتناء كتاب أو كاسيت أغاني أو صورة لجيفارا (قبل أن تقبض عليه الأمركة وتحوله إلى سلعة وتطبعه على الألبسة الداخلية).
كنت أستعير الكتب من منذر مصري لمدة ساعة أو أقل لأنسخها فوتوكوبي أو بخط يدي إن تعذّر تصويرها (كان منذر يعوّض بخله في إعارة الكتب والألبومات الموسيقية وتقديمي للأصدقاء المثيرين بكرم نادر في كل شيء آخر)، أما المصدر الآخر لإغناء مكتبتي فكان عن طريق سرقتها من المعارض المُقامة في الجامعة أو المراكز الثقافية.
كان الكتاب أداة سحرية لي، أتأمّله بفتنة العابد، أشمّ رائحة الورق والحبر وأجزم أيضاً أن رائحة النعوت والأسماء والأفعال كانت تتطبّع على أصابعي كصبغة باهتة، وأفكّر: متى سيكون لي كتاب باسمي، متى "سأنوجد"؟ فصنعت كوجيتو خاصاً بي: أنا أكتب فأنا موجود.
عندما نشر عباس بيضون أول قصيدة لي في ملحق السفير الثقافي في عام 1992ربما، وقفت أمام المرآة وخاطبت نفسي: ها قد بدأت أيها الأحمق، لقد فعلتها، بقي عليك أن تستمرّ، وعندما صدر أول كتاب لي وضعته على الرف بين كتب الشعر الأثيرة لدي: سليم بركات ونوري الجرّاح وأمجد ناصر وبسام حجار وعباس بيضون ومنذر مصري، وحلمت أن الكلمات تتحاور في الليل وتنتقل وتبدّل أمكنتها من صفحة إلى أخرى ومن كتاب إلى آخر.
كانت الكتابة بمثابة علاج، بمثابة غلاف حامي من الأوبئة السارية، كتبت كي لا أشنق الحيوانات، كي لا أسكب الكاز على أحد وأشعله، كي لا أقتل، كي لا أتحول إلى قاتل متسلسل، كنت أرغب باستخدام السكين فاستخدمتها على جسد الكلمات، كانت كتبنا المدرسية ومعلّمينا وقادتنا الآخرون ونشرات الأخبار وافتتاحيات الجرائد تأخذنا باتجاه أن نصبح سفّاحين وقتلة ولصوص، فأنقذتني الكتابة من مصير مشابه.
لم أنج كلياً، إذ أني ككل الطغاة يقصّون الأقدام لتصبح الأطوال واحدة، رغبت بتحويل العالم إلى فكرة مكتوبة، الحياة والبشر والأمكنة كانوا كلمات من حولي فحسب، وكان لرنين الكلمات/الموجودات عندما تصطدم ببعضها البعض سحرا خاصا ظننت أنه يدعى الشعر.
استغرق كتابي الأول أربع سنين لتصدره وزارة الثقافة، ففي حين وقعت العقد مع مديرية التأليف والترجمة في عام 2004 لم تطبعه الوزارة إلا في عام 2008، عندما سُمّيت دمشق عاصمة للثقافة العربية (بلغت تكلفة الألعاب النارية في حفل الختام مبلغا أكبر عدّة مرّات من تكلفة كلّ ما طُبع من كتب في السنة عينها) ولكم أن تتخيلوا مقدار الكوميديا السوداء في تسمية مماثلة لعاصمة تصدر فيها ثلاث جرائد فقط لا يُقرأ فيها سطر واحد وتُحجب فيها المواقع الإخبارية وتصل إليها جرائد الدول الأخرى المجاورة بعد صدورها بيوم أو اثنين.
عاصمة ثقافة بلا ثقافة واتحاد كتّاب بلا كتّاب وأدب معقّم وصحافة إخوانية، لكني مضيت فحسب.
توهّمت الأرق فأرقت
كنت أعيش لأقرأ، إذ كان من غير المفهوم لي وجود كل تلك الكتب إلا لتُقرأ. وكان حلمي الوحيد هو أن أترك بمفردي في مكتبة ضخمة، وكنت أجد أن هذا حلم طفولي بعض الشيء (إذ كانت لدي بضعة مهام أخرى تتعلق بمطاردة كلاب الجيران وتكسير زجاج نوافذهم وتربية الأسماك في حوض المجلى) قبل أن أفاجأ بأن لبورخيس التصوّر نفسه عن الجنّة: مكتبة مليئة بعدد لا نهائي من المؤلفات، فأدركت عندها أني لست الأحمق الوحيد الذي يفضّل صحبة الكتب على صحبة البشر. وكان من الطبيعي أن أنتقل بعد عدة سنوات إلى الكتابة، الكتابة لا غيرها إذ أني في محيط يفتقر لأنواع أخرى من الفنون إلا إذا اعتبرنا الوقوف باستعداد في برد كانون وتأدية التحية لعلم نصف متهرّئ مع الصراخ بكلمات النشيد الوطني، فنّاً. فالألوان وأدوات الرسم ليست مجانية كذلك الأدوات الرياضية، ناهيك عن كاميرات التصوير وأدوات النحت، كان من الواضح أني سأتجه إلى الشعر، فأنا لم أعرف روائياً في حياتي مثلا والرسام الوحيد الذي تعرّفت عليه (كاظم خليل) كان مفتوناً بالشعر. كانت الخيارات أمامي ضئيلة إما أن أصبح قاطع طريق أو كاتباً (أرغب بالقول رائد فضاء أو كاتباً، لكن ما من فرع لوكالة ناسا في حي الرمل الشمالي).كانت الخيارات أمامي ضئيلة إما أن أصبح قاطع طريق أو كاتباً (أرغب بالقول رائد فضاء أو كاتباً، لكن ما من فرع لوكالة ناسا في حي الرمل الشمالي).
وطبعاً لم تساعدني بنيتي الجسدية على أن أصبح مجرماً مرموقاً فكان خياري الأرخص أن أكتب، كتبت كثيراً منذ سن العاشرة، مسلسلات مصورة على شاكلة سوبرمان وباتمان، شعراً وقصصاً قصيرة، مذكرات وهمية لعاشق وهمي.
لم أكن أعرف أصلا إن كنت مغرما أم لا لكني ظننت أن الكاتب لا بد أن يكتب عن الحب، توهّمت الحب فكتبت فيه وتوهّمت الأرق فأرقت.
كنت أكتب لأفهم نفسي والعالم، وربما لأجد نفسي وأدافع عن هذا الوجود القلق، وحتى اليوم لا تزال هذه طريقتي الأثيرة في التفسير، لن أفهم شيئا حتى أراه مكتوباً، الكتب هي كل ما يحصل في حياتي، عندما أحببت امرأة أحببتها لأكتب لها قصائد وعبارات غزلية، كل ما عرفت عرفته مكتوبا ومسطراً في جمل وأحرف ولغة، مشاعري لا تكون حقيقية إن لم تكن مكتوبة، حتى ارتكبت تلك الحماقة وسطّرت مشاعري على عقد زواج.
كانت الكتب شحيحة، ومن يملك كتاباً كمن يملك كنزاً أو قنبلة موقوتة، كان من الطبيعي في تلك الآونة أن يذهب الناس إلى السجون لمدد تتجاوز العشر سنوات لمجرد اقتناء كتاب أو كاسيت أغاني أو صورة لجيفارا (قبل أن تقبض عليه الأمركة وتحوله إلى سلعة وتطبعه على الألبسة الداخلية).
كنت أستعير الكتب من منذر مصري لمدة ساعة أو أقل لأنسخها فوتوكوبي أو بخط يدي إن تعذّر تصويرها (كان منذر يعوّض بخله في إعارة الكتب والألبومات الموسيقية وتقديمي للأصدقاء المثيرين بكرم نادر في كل شيء آخر)، أما المصدر الآخر لإغناء مكتبتي فكان عن طريق سرقتها من المعارض المُقامة في الجامعة أو المراكز الثقافية.كان حلمي الوحيد هو أن أترك بمفردي في مكتبة ضخمة، وكنت أجد أن هذا حلماً طفولياً قبل أن أفاجأ بأن لبورخيس التصوّر نفسه عن الجنّة
كان من الطبيعي في تلك الآونة أن يذهب الناس إلى السجون لمدد تتجاوز العشر سنوات لمجرد اقتناء كتاب أو كاسيت أغاني أو صورة لجيفارا
كتبت كي لا أشنق الحيوانات
المصدر الآخر لإغناء مكتبتي كان عن طريق سرقة الكتب من المعارض المُقامة في الجامعة أو المراكز الثقافية.
كان الكتاب أداة سحرية لي، أتأمّله بفتنة العابد، أشمّ رائحة الورق والحبر وأجزم أيضاً أن رائحة النعوت والأسماء والأفعال كانت تتطبّع على أصابعي كصبغة باهتة، وأفكّر: متى سيكون لي كتاب باسمي، متى "سأنوجد"؟ فصنعت كوجيتو خاصاً بي: أنا أكتب فأنا موجود.
عندما نشر عباس بيضون أول قصيدة لي في ملحق السفير الثقافي في عام 1992ربما، وقفت أمام المرآة وخاطبت نفسي: ها قد بدأت أيها الأحمق، لقد فعلتها، بقي عليك أن تستمرّ، وعندما صدر أول كتاب لي وضعته على الرف بين كتب الشعر الأثيرة لدي: سليم بركات ونوري الجرّاح وأمجد ناصر وبسام حجار وعباس بيضون ومنذر مصري، وحلمت أن الكلمات تتحاور في الليل وتنتقل وتبدّل أمكنتها من صفحة إلى أخرى ومن كتاب إلى آخر.
كانت الكتابة بمثابة علاج، بمثابة غلاف حامي من الأوبئة السارية، كتبت كي لا أشنق الحيوانات، كي لا أسكب الكاز على أحد وأشعله، كي لا أقتل، كي لا أتحول إلى قاتل متسلسل، كنت أرغب باستخدام السكين فاستخدمتها على جسد الكلمات، كانت كتبنا المدرسية ومعلّمينا وقادتنا الآخرون ونشرات الأخبار وافتتاحيات الجرائد تأخذنا باتجاه أن نصبح سفّاحين وقتلة ولصوص، فأنقذتني الكتابة من مصير مشابه.
كتبت كي لا أشنق الحيوانات، كي لا أسكب الكاز على أحد وأشعله، كي لا أقتل، كي لا أتحول إلى قاتل متسلسل،
لم أنج كلياً، إذ أني ككل الطغاة يقصّون الأقدام لتصبح الأطوال واحدة، رغبت بتحويل العالم إلى فكرة مكتوبة، الحياة والبشر والأمكنة كانوا كلمات من حولي فحسب، وكان لرنين الكلمات/الموجودات عندما تصطدم ببعضها البعض سحرا خاصا ظننت أنه يدعى الشعر.
استغرق كتابي الأول أربع سنين لتصدره وزارة الثقافة، ففي حين وقعت العقد مع مديرية التأليف والترجمة في عام 2004 لم تطبعه الوزارة إلا في عام 2008، عندما سُمّيت دمشق عاصمة للثقافة العربية (بلغت تكلفة الألعاب النارية في حفل الختام مبلغا أكبر عدّة مرّات من تكلفة كلّ ما طُبع من كتب في السنة عينها) ولكم أن تتخيلوا مقدار الكوميديا السوداء في تسمية مماثلة لعاصمة تصدر فيها ثلاث جرائد فقط لا يُقرأ فيها سطر واحد وتُحجب فيها المواقع الإخبارية وتصل إليها جرائد الدول الأخرى المجاورة بعد صدورها بيوم أو اثنين.
عاصمة ثقافة بلا ثقافة واتحاد كتّاب بلا كتّاب وأدب معقّم وصحافة إخوانية، لكني مضيت فحسب.
أقنعتي الملونة التي أكتب بها حين أكتب
في سنتي الأولى في الجامعة كنت أشترك بالعديد من الأمسيات الشعرية، في أحد المرّات اقترب مني عنصر الأمن المكلف مراقبة هذا النوع من النشاطات وقد أتى متأخراً إلى الأمسية وسألني عن قصيدتي التي ألقيتها ولم يكن حاضراً وقال: ماذا ترغب من كتابة الشعر، بدأت أتكلم بجدية عن القلق وعن علاقة المفردات ببعضها والإدهاش...فقاطعني: ماذا أكتب في التقرير؟؟ قلت له: اكتب شاعر صعلوك يرغب بالتعرف على معجبين ومعجبات فحسب..أعجبته إجابتي ومضى مزهوّا بإتمامه المهمة. ربما لم تكن إجابتي تلك رغم سطحية تركيبها بعيدة عن رغباتي العميقة بنيل الإعجاب وإثبات حضوري في العالم ربما لست أكثر من صعلوك يرغب بأن يُحب وكل هذا الكلام عن القيمة الفنية والجدة ليس أكثر من قناع آخر أرتديه لأصدّق وهم الكتابة، وهم أن العالم يتغيّر بالكلمة، فقد كتبت منذ أمد بعيد خطاب فوزي بإحدى الجوائز الأدبية الهامة، على طريقة جيم كيري في فيلم The mask: أودّ أن أشكر رند التي التقطتني في ساحة الشيخ ضاهر وسألتني بعد أن قرأت عليها قصائد من مجموعتي الأولى: هل تملك قضيباً أم أنك تضاجع بالقلم فقط؟ سيدتي: إسهامك في تحسين كتابتي لا يقاس، لقد فعلت ما عجزت عنه العديد من الكتب النقدية. يجب علي أن أشكر غسّان، الذي دأب على البحث في أوراقي القديمة ومسوداتي الفاشلة ليؤلف منها قصائد لحبيبه الخائن فخيّبت ظنه وانتهى به الأمر مدفوناً تحت شجرة الجوز الوحيدة في حديقتي. أود أن أشكر ماريا التي تصنع قهوة لا مثيل لرداءتها في مقهى أوركسترا، ريزا التي تحمّلت رائحة عرقي طيلة الأيام التي كنت أكتب بها ولا أستحم، وهيلو لدفعها الأمور دوما باتجاه الأمام. وبكثير من الألم، أود أن أتقدم بالشكر إلى صبر قطي الراحل ميلا وهو يكتفي بالتثاؤب عندما كنت أقرأ عليه مسوداتي. أود أن أشكر إيكولاي وأوليفر وديبري شركائي في ليلة البوكر، تشولا التي تجلي الملاعق والشوك وتترك الصحون - لأنها أنثوية الشكل - كما تقول، بوريس الذي لا يكف عن الضحك حين أتكلم وبيبر الذي يصدّق كل ما أهذر به، شخصياتي الخفية الأخرى، أقنعتي الملونة التي أكتب بها حين أكتب. صورة المقال من مقتنيات متحف القصر الوطني في كوريا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين