شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 1

طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 1

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 10 أغسطس 201807:44 ص
ملاحظة قبل القراءة: أسماء الشخصيات هي أسماء رمزية وليست أسماء الأشخاص الحقيقية. أحتفظ بالأسماء الحقيقية لأن أخلاق العمل الصحفي تمنع نشر معلومات شخصية عن الملفات الطبية. يشير القانون إلى أن نشر التفاصيل يتم بعد مئة عام من تاريخ ميلاد الشخص. 1 كان يتخبط في وحل الآلهة متعرّقا، يحرّك ساقيه بشكل دوراني كأنه يهرول وهو لم يبارح فراشه.. ربما لأنه يتألم، أو ينظر إليها تقترب فتوهّم قدرة عابثة على الهرب.. كان أمامي يقاوم جاذبية جفونه نحو الأسفل، بأعين تعتصر نهاياتها لترى النور، وأحيانا كان ينظر إلى السماء كي لا يراني أراه وهو يتقيأ سوائل خفيفة تخرج من عظامه. حتى وهو على تلك الحال، فإن أثر الخجل من فقدان شعره لم يبارح شكل وجهه الميت، كأنه يقول لي: آن الأوان لتكتب كواليس الموت الفظيعة. ثم استدار متنهدا، بائحا بزفرة حارقة لمضطهد عذّبه جسمه الصغير، محدقا في السقف الأبيض المائل إلى الاصفرار محاولا تحريك فكيه وتنسيق الحركة مع شفتيه لكي ينطق. أسدل يديه مرتخيا على الفراش الكئيب منقطعا فجأة عن مقاومة الألم الذي سرى في كامل جسمه، شدقيه مفتوحين، لعابه يرسم خطا بين طرفي شفتيه وخده وصولا إلى أسفل أذنيه.. شحوب خبيث يرتسم على وجهه الصغير.. تنهيدة أخرى ثم قال: عطشت. أعرف هذا الفتى جيدا. أتذكر لقائي الأول به عندما عدت ذات صباح قائظ الحر إلى مستشفى الأطفال بالعاصمة تونس، بعد أن زرته للمرة الأولى صحبة صديقتي زينة التي عرفتني بدورها إلى جمعية متكونة من شباب متطوعين تهتم بشؤون الأطفال ذوي الاحتياجات الاجتماعية في مستشفى الأطفال المذكور. أتذكر أنني زرت المستشفى وتعرفت إلى الجمعية وأصبحت عضوا فيها يوم عيد الفطر أو بعده بيوم لست متأكدا.. لكنني انخرطت مباشرة في نشاط جمعية Tunaide بعد أن تعرفت إلى طبيعة نشاطها فورا ودفعة واحدة. السيف البتار أصبح صديقا لي بالصدفة. دخلت المستشفى متوجها إلى مقر الجمعية التي تتخذ من غرفة في قسم الطب الباطني للأطفال مقرا لها، أخذت شارة عضوية الجمعية ووضعتها على صدري ولبست سترة بيضاء وفيها شعار الجمعية. ربما سهّل لي ذلك التجوال بين أقسام المستشفى بأريحية، لكن هاجسا كان يلبسني رغما عني في أن ألتقط كل شاردة وواردة من حولي في ذلك المكان.. ربما كانت غريزة الصحفي وليس الناشط المدني. أردت أن أعيد تركيب الشريط من جديد.. فغادرت المستشفى إلى أحد المقاهي المجاورة ثم عدت إليه لأحدق في كل التفاصيل، بداية من باب الدخول وصولا إلى مكان ما في الطابق الثالث سأحدثكم عنه لاحقا.
لن أخفي شعوري بالوحشة والرهبة والوحدة والرعب عندما مشيت في الرواق...ممر الموت والنجاة من الموت
"من أنت وماذا تفعل هنا؟ وهل يمكن أن نتكلم معك؟ هل لديك حلوى؟ أو هل لديك شيء يجعلنا نفكر خارج هذا الرواق الكئيب البارد؟"
دخلت مستشفى الأطفال "بشير حمزة" بباب سعدون بالعاصمة تونس. أولى الصدمات كانت تتمثل في تلك الإشارات المكتوبة والتي تملأ مجال بصرك أينما أجلته: قسم الإنعاش، قسم جراحة الأطفال، قسم جراحة العظام، التخدير، الإستعجالي، تقويم الأعضاء، أمراض الولادات الجديدة... لم أستطع التفكير في شيء سوى في أن تلك الأجسام الصغيرة سوف تتعرف إلى مصيرها منذ بداية دخولها المستشفى. سوف تتعرض إلى ذلك الكم المهول من الألفاظ المشحونة بالمشارح والدماء والضمادات والأدوية. ولا أخفي سرّ أنني وضعت نفسي ـ بصعوبة ـ مكان أحد الأطفال القادمين إلى المستشفى والمبصرين لتلك الإشارات.. لقد تملكني الخوف والرعب عند ربطي بين تلك الكلمات والصور التي في ذهني عنها. لم أواصل سيري إلى الأمام هذه المرة، استدرت إلى اليمين. وجدت بهوا ذا أرضية بنّية اللون وجدران زرقاء وبيضاء. قادني البهو إلى ما يشبه المربع الفسيح أين يوجد درج على اليسار ومصعد كهربائي على اليمين. رأيت ممرضة تحمل مولودا جديدا أو أنه طفل في أشهره الأولى لا أعرف، لقد كان مغطى بالكامل. اقتربت منها وسألتها: "مرحبا، أبحث عن قسم السرطان، هل صحيح أنه في الطابق الثالث؟". أجابت بانكسار: "نعم". لم أجد تفسيرا لانكسارها ذاك، هل كانت متضامنة معي لأنها ظنت أن لي طفلا مريضا بالسرطان في ذلك الطابق، أم أن الانكسار البادي على محيا الممرضة هو انكسار يخص الطابق برمته: أطفالا وزوارا وأهلا وأطباء وسمعة و.. أموات. وجهت الممرضة تركيزها إلى الرضيع الذي "يكغكغ" فوق الطاولة المتحركة ذات العجلات. وصلت هي إلى الطابق الثاني، وواصلت أنا إلى الطابق الثالث، وقبل خروجها من المصعد رمقتني بنظرة إلى الآن أنا متأكد بأنها نظرة حزينة مختلطة بأمنية ما محفوظة في صدرها، ربما كانت تتمنى لي أن أسمع خبرا جيدا حول طفلي المفترض.. ربما. لقد زادت نظرتها تلك من حماستي وقلت في نفسي حينها: "ربما الأمر أبعد وأعمق بكثير مما أتصور". استجمعت كل قواي بعد حوار بدا لي طويلا مع نفسي رغم أن عدد الطوابق ثلاثة فقط. ووضعت نصب عيني التركيز في التفاصيل. وصلت الطابق الثالث. أردت التأكد من أني في الطابق الصحيح فبحثت عن الإشارة التي يكتب عليها رقم الطابق وتعلق على الجدار، عادة ما تكون أمام باب المصعد مباشرة. بحثت عنها ووجدها وتأكدت حينها أنني في الطابق الصحيح، استردت يسارا ومشيت ثلاث خطوات.. ثم انعطفت يمينا... وجدت نفسي أمام ممرّ طويل، طويل جدا، إلى درجة أن بصرك قد لا يصل إلى نهايته.. كان ممرا باهتا بلون يميل إلى الزرقة السماوية و"فايونس" مزركش بالأزرق أيضا وضوء النهار يخترق النوافذ ليزيد من بياض المكان وبالتالي من بهتة الألوان. كان ممرا طويلا وباردا وأزرقا.. ممر مليء برائحة الأدوية والأكل ورائحة الأطفال. لن أخفي شعوري بالوحشة والرهبة والوحدة والرعب عندما مشيت في الرواق، إنه خليط شاحب من أحاسيس الضيق أثناء هلوسات الحمّى. وما زادني شهقة ورعبا وجوه الأطفال التي كانت تجوب المكان أمامي وترمقني بنظرات دائما ما تكون مخصصة لاستقبال الغرباء. كانت أعينهم تقول لي: "من أنت وماذا تفعل هنا؟ وهل يمكن أن نتكلم معك؟ هل لديك حلوى؟ أو هل لديك شيء يجعلنا نفكر خارج هذا الرواق الكئيب البارد؟".. لقد كانت نظراتهم جميعا تقول الأشياء ذاتها، كأنهم قبيلة واحدة أو عائلة واحدة أو كلهم إخوة من "البطن" ذاتها. لقد كانوا متضامنين بعضهم مع بعض في المحنة التي يعيشونها: مرحبا بك في ممر الأطفال المرضى بالسرطان.. ممر الموت والنجاة من الموت.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image