يصعب عليّ اليوم تذكّر كم كان عمري عندما رأيت أول شعرة بيضاء في رأسي. أعتقد أنني كنت في عامي العشرين أي قبل خمسة عشر عاماً. لم أخف كثيراً، فهو أمر وراثي كسبته من أمي التي شاهدت أيضاً أولى شعراتها البيضاء في سن مبكرة، مما اقتضى بأن تستمر وبشكل دوري في صبغ شعرها الذي أصبح اليوم أبيض اللون بشكل كلي.
إذاً، حان وقت دخولي دوامة صبغ الشعر لأبقى محافظة على رونقي وشبابي، فالشعر الأبيض عادة دليل التقدم في العمر، وأنا لم أزل صغيرة على "الشيب" كما يقول لي الجميع. دوامة اكتشفت بعد بضع سنوات بأنها تشبه كرة الثلج، تكبر شيئاً فشيئاً حتى يصعب إيقافها.
بدأت بصبغ شعري بنفس لونه، الأسود، فقط لأخفي الشعر الأبيض. وشيئاً فشيئاً صرت أتجرأ على التغيير.
كنت أختار لون الصبغة بحسب مزاجي. فإن كنت على عجلة من أمري أصبغه بالأسود، فهي العملية الأسرع على اعتبار أن أي خطأ في مزج اللون مع المظهر أو عدم توزيع الصبغة بالتساوي على كافة خصل الشعر لن تكون نتائجه كارثية. وإن كانت بي رغبة بالتغيير أختار لوناً من مشتقات الأحمر التي لها أسماء ودرجات متعددة: باذنجاني. خمري. بنفسجي. في بعض الأحيان كنت أتجرأ على صبغ الأسود المزرق، والذي يميل للأزرق بشكل خاص تحت أشعة الشمس، ولم أحب الأشقر أو البني يوماً. وكانت العملية تتم إما في منزلي أو في صالون التجميل، أيضاً حسب المزاج، فالذهاب للصالون ليس من مشاويري المفضلة على الإطلاق.
استعملت معظم الأنواع التجارية المعروفة في سوريا، ومع مرور السنوات باتت لدي قدرة كبيرة على المقارنة بين تلك الأنواع. هذه جيدة لكنها أقل ثباتاً حيث يختفي لونها بعد أسبوعين على أبعد تقدير. أخرى تسبب جفاف الشعر. نوع ثالث هو المفضل لدي لكني لا أجد دوماً الألوان التي أرغب فيها.
عاماً بعد آخر تقلصت الفترات الفاصلة بين كل عملية صباغ وأخرى، فالشعر الأبيض يزداد بسرعة. وفي مدينتي، من غير اللائق أن أترك شعري ليطول دون صبغة مما يؤدي لظهور مسافة يبدو فيها الشعر الأبيض واضحاً، ويجعلني بكل تأكيد عرضة لسماع الكثير من التعليقات: "ليش هيك تاركة شعرك؟". "روحي اصبغي هلأ بتبيني أكبر من عمرك". "شو مجنونة؟ لازم كل أسبوعين تصبغي لحتى يضل مظهرك مرتب". "هيك عم تطلعي عادي بالطريق وفي شعر أبيض بنص راسك؟". في مدينتي الشعر المصبوغ دليل الأناقة والشباب، وكأنه يتوجب عليّ أن أبقى شابة طوال حياتي، وأن أصرف الكثير من الوقت والجهد وأنا أصارع أثر مرور السنوات على جسدي.
إذاً، عليّ بالصبغة، وعليّ بمراقبة تلك الشعرات البيضاء اللعينة المتمردة بشكل يومي لئلا تطول عن الحد المسموح به "اجتماعياً"، إلا أن وتيرة ظهورها تسارعت بشكل كبير خلال سنوات الحرب السبع الفائتة في سوريا، فكل بضعة أسابيع أعثر على شعر وحتى خصل بيضاء جديدة داخل فروة رأسي. الشعر الأبيض كما يُقال يزداد مع تكاثر الهموم، ومع كمية الخوف الذي نعيشه ونتعرض له، حيث تُستنزف الخلايا المسؤولة عن إنتاج لون الشعرة. ظاهرة أخرى شائعة تُدعى "متلازمة ماري أنطوانيت"، وتطلق على حالات تحوّل الشعر بكامله إلى اللون الأبيض بشكل مفاجئ إثر حدث صاعق ما، كما حدث مع الملكة الفرنسية التي أصبح كل شعرها أبيض ليلة إعدامها، كما تروي القصص والحكايات. مضى أكثر من ألفي يوم على بداية الحرب في بلدي. ألفا يوم قد تعني ألفي شعرة بيضاء، أو أكثر، أو ربما شعر أبيض بشكل كامل، مثل ماري أنطوانيت.
مع ازدياد مسافة "الشيب" بدأ من حولي يلاحظون فيّ شيئاً مختلفاً لم يكن واضحاً في البداية. "شو متغير فيكي؟". ثم أخذت بملاحظة ردات فعلهم التي تراوحت بين التأييد والإعجاب، وبين الاستنكار الشديد. "حلوة كتير الفكرة. ليش لأ؟ جربي". "فظيعة شو جريئة
اليوم أشعر بأنني لا أطيق صبراً كي يطول اللون الأبيض ليغمر شعري حتى نهاية أطرافه، ولأرى نفسي في المرآة لأول مرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً دون أصبغةوفي نهاية العام الفائت، كنت أضطر لصبغ شعري مرة كل ثلاثة أسابيع، لأضمن حصولي على مظهر لائق، وكان ذلك أشبه بموعد ثابت أسجله في دفتري الصغير كل مرّة. "الموعد القادم في 20 كانون الأول". وفي ذلك اليوم، نظرت لنفسي بالمرآة، وتجرأت لأول مرة على أن أفكر بصوت مرتفع: "تعبت ومللت. ماذا لو لم أصبغ شعري؟ هل سأبدو قبيحة؟ مهملة لنفسي؟ غير مرتبة؟ أقل من غيري وممن يصبغن شعرهن؟ لمَ لا أجرّب تخطي هذا الموعد؟". تساؤلات ارتفعت وتيرتها شيئاً فشيئاً، واختلطت مع مئات الأسئلة التي أطرحها على نفسي كل يوم، عن معنى الحياة والموت والكثير مما نعيشه في ظل حرب عبثية قد تكون أخف آثارها وطأة علينا هو إصابتنا بالجنون، أو اللامبالاة المطلقة. شعرت بأن الأمر يستحق التجربة، ونظرت لعلبة الصبغة في خزانتي، والتي كانت تنتظر أن أضعها على رأسي، وطلبت منها أن تمنحني مهلة إضافية، لأرى كيف سيبدو مظهري بعد بضعة أسابيع، لأرى كيف سأكون أنا على حقيقتي، دون ألوان. مع ازدياد مسافة "الشيب" بدأ من حولي يلاحظون فيّ شيئاً مختلفاً لم يكن واضحاً في البداية. "شو متغير فيكي؟". ثم أخذت بملاحظة ردات فعلهم التي تراوحت بين التأييد والإعجاب، وبين الاستنكار الشديد. "حلوة كتير الفكرة. ليش لأ؟ جربي". "فظيعة شو جريئة. تجربة رائعة لا تصبغيه بحياتك اتركيه هيك". "مو خسارة. إذا ما عجبوكي بترجعي بتصبغي". "لا لا ما حبيت الفكرة أبداً. الشعر المصبوغ أرتب بكتير. الشعر الأبيض.. ما منيح. ما مرتب. أنا ما فيي إلا أنو أصبغ شعري". "ما بعرف. يعني إذا بدك رأيي بقلك اصبغي أحسن. أرتب". "ليش هيك عاملة بحالك؟ صاير معك شي؟". "لك حاج جنان الشعر الأبيض بيكبر. الرجال ما عندهم مشكلة الشيبة هيبة بس البنات؟ لا لا مستحيل". "لك والله هلكت من الصبغة بس شو نعمل؟ مستحيل أعمل متلك". من أهم التعليقات أو الشهادات التي ننتظر عادة الحصول عليها هي من "الحلاق". الحلاقون في مدينتنا أعداء الشعر الأبيض. يرفضون بشكل تام وحاد وجود أية شعرة بيضاء في رؤوس زبوناتهم، ويدعونهن للجلوس فوراً على الكرسي وهم يحضّرون الصبغة الملائمة للحصول على الشكل المقبول وفق معاييرنا الاجتماعية. امتحان اجتزته بنجاح بعد زيارة لحلاقي منذ حوالي شهرين. كنت أنتظر الجملة المعتادة حينما سأفتح باب المحل: "لك ليش هيك تاركة حالك؟ يلا اقعدي فوراً عالصبغة". ردة فعله كانت مختلفة هذه المرة، أخبرني بأن أستمر في "قراري وتجربتي"، وعرض عليّ أن يزيد لي كمية الشعر الأبيض فهو اليوم "آخر صيحات الموضة، وكثير من الفتيات يدفعن مبالغ كبيرة للحصول على شعر أبيض أو رمادي أو فضي". فكرة بدت لي مضحكة بعض الشيء. فتيات يدفعن النقود للحصول على شعر أبيض، بينما أنا أنفقت الكثير من الوقت والنقود أيضاً لأعوام كثيرة للتخلص من ذلك اللون. منذ بضعة أشهر تعرفت إلى صديق جديد. أسرّ لي في لقائنا الثاني أو الثالث بأنه خجل في أول مرة من سؤالي عن سبب وجود كل هذا الشيب في شعري. لعلّه اعتقد بانني أعاني من مرض، أو جنون ما. لكنه بكل الأحوال وجد إحراجاً من أن يوجه لي سؤالاً: "لمَ يبدو شعرك هكذا؟". سؤال أتعرض له بشكل دوري تتناقص وتيرته يوماً بعد آخر، فكل من حولي اليوم بات يعرف بأن شعري ليس أسود بشكل كلي، وبأن نصفه أبيض. ومع ذلك، لم أزل أرى في عيون بعض من أقابلهم لأول مرة قليلاً من الاستغراب. ليس من السهل أن تسأل فتاة لا تبدو كبيرة في السن عن سبب وجود الشيب في رأسها. لكنني عندما ألمح هذا التساؤل داخل عيونهم المحدقة في رأسي، أرغب بأن أوفر عليهم الوقت وأقول: "هذه أنا. هذا شكلي. هذا لون شعري وهو خليط من الأسود والأبيض، وقد توقفت بشكل كلي عن صباغته. أحبه وأعتقد بأنه يعبّر عني أكثر من أي وقت مضى". واليوم أشعر بأنني لا أطيق صبراً كي يطول اللون الأبيض ليغمر شعري حتى نهاية أطرافه، ولأرى نفسي في المرآة لأول مرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً دون أصبغة. ذاك الصديق أطلق على شعري الأبيض منذ أيام تسمية "شعرات الحياة"، وأخبرني بأنني أذكّره بأميرة كانت تمنح الحياة لمن حولها بشعرها الأبيض السحري، وذلك في واحدة من تلك القصص التي تُحكى للأطفال قبل النوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين