سياسون، متديّنون، مثقّفون، تلاميذ، فنانون، محجّبات، مثليّون، ثنائيو الجنس، ملحدون، عاشقون، وفئات من انتماءات مختلفة يتلاقون في ميرتوم هاوس Myrtom House. يحتسون القهوة، يقعون في الحب، يتذوّقون الطعام والروح الانفتاحية التي لا تعرف طعم التمييز، بلا أي قيود اجتماعية أو قانونية أو دينية، في هذا المبنى الذي شهد على تاريخ بيروت الجميل والقبيح في آن واحد، ليصبح ملجأً لكل من يسعى إلى أن يعيش حريته كاملةً.
ميرتوم هاوس، شارع المكسيك في الحمرا، بيروت. قد لا يظهر موقع ذلك المبنى بوضوح إذا ما بحثت عنه في الخرائط الإلكترونية. لكنه، مع ذلك، يضجّ بلغاته المتعددة بعدما أصبح منزلاً حميماً للآلاف من روّاد الثقافة من جميع أنحاء العالم. تفضّلوا ندخل هذا المبنى ونشرّحه طابقاً طابقاً لنفهم ما الذي يجعله "الخارج عن القانون" الوحيد المسموح به ليس في لبنان وحده، بل في العالم العربي أيضاً.
بضع خطواتٍ أمام جامعة هايكازيان في شارع الحمرا، تقع عيونكم على لوحة معلقة في الغيوم يتخللها رسمة سايكادالية عنوانها باردو Bardo، التي تعني بلغة التيباتيين "في حالة وجود وسيطة بين حياتين على الأرض”. مدخلٌ مستطيل في الهواء الطلق، محاصر بشجيرات جميلة يوصلكم إلى باحة منعزلة عن ضجيج العالم الخارجي، فيها بضعة كراسٍ وعدد من الطاولات لاحتساء القهوة. تعبرون عتبة صالة داخلية تستقبلكم ببارٍ كبير، ثم تنتقلون إلى صالات مختلفة بديكورها ومفتوح بعضها على بعض. أنتم بذلك عبرتم حدود قوانين المجتمع وتقاليده البائدة، للغوص في عالمٍ يجرّدكم من أقنعتكم.
باردو، نقطة تواصل بين الأفراد منذ العام 2006، افتتح أبوابه لجميع فئات المجتمع بدون حارسٍ يحاول فرز الرؤوس. المكان يحتفل بالتعددية في كل يوم، ويروّج لثقافة تقبل الآخر مع كل فردٍ جديد يدخله، كما يقول مدير المشروع، جوزيف عون. باردو يعتبر نفسه عرّاب الساحة الفنية والثقافية من بيروت والعالم العربي، إذ يتحوّل إلى نادٍ سينمائي لدعم المواهب الشابة المحلية، وإلى صالة اجتماعات لاستقبال المنظمات الثقافية، وإلى مسرح لاحتضان العروض، وإلى مموّل لقضايا بعض المنظمات غير الحكومية، وإلى صوتٍ للقراءة، وحتى إلى طبّاخ لتقديم الأطباق الشهية للراقصين من BIPOD على سبيل المثال، أم لإرسالها إلى اللاجئين السوريين من مخيماتٍ ينتقيها المسؤولون عن المشروع باهتمامٍ كبير.
سحر ذلك المكان يكمن في الحياة التي تسوده منذ أولى ساعات النهار إلى آخر الليل، فهو كزواحف الطبيعة الجميلة يغيّر ألوانه وفق الأفراد الذين يدوسون أرضه. قهوة ساخنة مع حلوى خفيفة إن كنتم تلاميذ تتصفحون ملاحظات الأساتذة الجالسين على طاولةٍ بجانبكم، غداءٌ متكامل يأتي مع حسم جيّد على سعره إذا ما كنتم تعملون في إحدى الشركات أو في أحد البنوك المحيطة بالمكان، بيرة محلية أم كوب شاي في العصر إذ ما كنتم ترغبون في إزالة إرهاق النهار، وكوكتيلات لذيذة بمذاقها ومفعولها حتى ساعات متقدّمة من الليل، تحتسونها على إيقاع موسيقى أهم الدي-جيز DJs في البلد، وأنتم تتبادلون الأحاديث مع نخبة من المثقفين المحليين أو الأجانب. مغنون ومخرجون، كتّاب وممثّلون، مهندّسون، رسّامون، وحتى سياسيّون، شباب كحّلوا عيونهم لرسم نظرة عميقة وفتيات انتعلن أحذية رجالية لوقفةً أكثر ثباتاً، مثليّون أو محبّون للجنس الآخر، كلهم يلتقون تحت هذا السقف، لأن سمعته وطّدها قبول الآخر واحترامه، كما يؤكد مازن فخر الدين. بالنسبة إليه، لا أحد يفرّق هنا بين إنسانٍ وآخر، وبين ميولٍ وأخرى، وبين فلسفة وفلسفة، فالجميع يقصدون المكان ليبتعدوا عن ضجيج المجتمع وقوانينه وسذاجته أحياناً.
مقابل باردو، في المبنى ذاته، يقدم مطعم جاي Jai أشهى المأكولات الآسيوية المتأثرة بالنكهات الهندية والتايلندية والصينية، ويتسم كذلك بالانفتاح نفسه الذي يتسم به جاره. في ذلك المطعم بالذات يأتي كبار السياسيين لتناول الطعام، في مقدّمهم وليد جنبلاط، الذي يساعد بنفوذه على المنطقة التي يقع فيها مبنى ميرتوم هاوس، في حماية الثقافة الانفتاحية التي يتمتع بها المبنى تحت غطاءٍ لا يمس به رجل أمن. العلاقة الوطيدة التي تربط جنبلاط بميرتوم هاوس هي علاقة تبادل فكري وثقافي تعود إلى حقبة ما قبل الحرب اللبنانية. مايكل ماشك Michael Maschek، نجل المالك الأول لمطعم ميرتوم هاوس، الذي كان يقع في الطابق الأرضي من المبنى، مكان باردو وجاي اليوم، يقول إن والده هانس Hans كان رجلاً نمساوياً يمينيّاً، يملك نظرة ضيقة إلى السياسة في لبنان والشرق الأوسط. تزمّته كان دقيقاً جداً في مرحلة السبعينات من القرن الماضي، ولكن وليد جنبلاط، ومثله مروان حماده، وهما سياسيان لبنانيان، كانا أبرز زبائنه ومنحاه الحظ والبركة لإدارة مطعمه، ميرتوم هاوس الشهير. "مير" من ميريام و"توم" من توماس، ثنائي يهودي هاجر من ألمانيا إلى لبنان خلال الحرب، وأدارا مطعماً صغيراً في القسم الغربي من بيروت، قبل أن يتسلّمه هانس. بحسب صحافي رويترز ستيف سومرفيل Steve Somerville، كان ميرتوم هاوس الملجأ الأمثل من واقع الحرب اللبنانية، وملتقى المراسلين الأجانب الذين عاشوا وناموا وكتبوا وفكروا فيه وراسلوا صحفهم منه. كان مأوى لصحافيي رويترز، الذين استرجعوا فيه أنفاسهم بعد أن انفجرت قنبلة قرب مكتبهم البيروتي، وكذلك ملجأً لمواطنين لبنانيين كانوا يبحثون عن بقعة آمنة من حرّ الطقس أو من القنابل المتطايرة في الخارج، للتمتع بتذوّق أطباق من الثقافة الأوروبية، وكأنه العشاء الأخير. فهذا المكان يقع في نقطة ساخنة من بيروت لم تنجُ من القنابل ولا من عمليات الخطف. لائحة الطعام التي كان يقدمها ميرتوم هاوس أشعرت الغريب أنه قريب من موطنه، كما ذكر في مقال نشرته صحيفة Daily Independent Journal عام 1972. احترق ميرتوم هاوس في العام نفسه إثر معركة دامت أسبوعاً في شارع مكسيكو، ليعاد لاحقاً افتتاح أبوابه ويشهد مع مرور الوقت على أهم أحداث الحرب اللبنانية. يتذكر روبيرت فيسك Robert Fisk مثلاً وجه امرأة رآها تحترق في سيارتها إثر تفجير سيارة أمام المطعم عام 1983. وكأن ذكريات ذلك المكان هي التي تعطي المبنى اليوم وهج الانفتاح الذي لا يعرف التمييز، احتراماً وتحيةً لجميع الأحداث المرّة والجميلة التي عاشها.
صعوداً إلى الطابق الثاني من المبنى، تجدون مركز الصحة الجنسية مرسا الذي يقدم أكثر الخدمات إنسانية للمجتمعين اللبناني والعربي. في المركز، بإمكانكم الحصول على فحص للأمراض المتنقلة جنسياً مجاناً وسرّياً، من دون إبراز هويتكم أو البطاقة الصحية. خطوة فاعلة من المركز لدفع أكبر عدد من الأفراد لإجراء الفحص حفاظاً على سلامة المجتمع. بعض الأشخاص ما زالوا يقصدون المركز مع شعور الخوف من أن يتعرف إليهم أحدٌ (كما تقول الناشطتان في المركز سينتيا وديانا)، فيرتدون النظارات الشمسية في الداخل أو يجلسون في غرفة بعيدة عن غرفة الانتظار، أو يأتون في ساعات خارج الدوام. عدد مهم من المواطنين من جنسيات عربية يرتادون المركز لإجراء فحص الأيدز، لأنهم يشعرون براحة وأمان أكبر جراء المعاملة التي يقدّمها المركز وعناصره.
لن نقول إن شارع مكسيكو جنّة على الأرض بلغة الانفتاح. فبعض الجيران في الحيّ لا يردعون أنفسهم عن انتقاد تلك الأجواء المحيطة بالمكان، ولكن ما من حادثة قد سجّلت حتى الآن. وما من شيء مرير قد يصيب أي زائر لميرتوم هاوس. يُذكر أن مركز مرسا منشقٌ من جمعية حلم المهتمة بحقوق المثليّين في لبنان والدول العربية، وأحد مؤسسيه هو شريك حياة أحد أصحاب باردو. أفرادٌ مثقّفون يجسدّون مصطلح "العائلة السعيدة"، وكل من يختلط بهم في ميرتوم هاوس، يحتضنونه ويهتمون بشؤونه كأنّه فرد من العائلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.