-ألديكِ مشكلة في قدميك؟
بإنكليزية غاضبة مطعّمة بلكنة فرنسية كيبيكوازية (نسبة لمقاطعة كيبيك الفرنسية في كندا) سألتني الممرضة التي جاءت لتصطحبني إلى غرفة العمليات، بعد أن أنهت زميلتها حفلة أخذ العيّنات من كل نقطة فيّ، وطلبت إليها وضعي على السرير المتنقل حيث كنت أشعر أني أذبح من شدة الألم.
كنت أفهم سبب معاملتها السيئة لي كوني لا أجيد الفرنسية، واضطررتها إلى التفوّه ببعض الكلمات الإنكليزية المقتضبة التي كانت تمرّرها ضمن حديثها الكيبيكوازي صارخة بزميلتها التي طلبت إليها أن تكلمني بالإنكليزية: No Anglais.
لم أستطع الرد على سؤالها الصادم واللامنطقي، وعندها فقط بكيت. كنت طوال الوقت أتظاهر بالتماسك أمام طفلتي التي رفضتُ أن تذهب يومها إلى الحضانة، مصرّة على أن تكون مع والدها في المشفى خلال الولادة.
استلقيت على السرير دون أن تساعدني، وبدأت تدفعني إلى المجهول الذي ينتظرني، وعند المصعد وجدت زوجي وابنتي بانتظاري ويالها من لحظة!
انغلق باب المصعد وأنا لا أرى سوى ستارة الدمع التي حجبت كلّ شيء عن عينيّ، وبدأت أدخل في هلوسات القلق المعجون بالألم.
أوصَلتْني إلى غرفة صمتُها يشعر بالاختناق واختفت. كانت الأسرّة الفارغة مرصوصة باستثناء فراغ اتّسع لسريري الذي جاورتُ فيه الرجل الوحيد المرصوص من قبلي.
لم يكن في وسعي أن أتحرّك. أخّرتُ الشهيق والزفير مراراً كي لا أزيد من ألمي، حتى عيني جمُدتا، حاولت ابتلاع البكاء كي لا آتي بأيّ حركة أو صوت يكسر هذا الصمت المحتقن.
انتظرتُ طويلاً عسى أحدهم يأتي ليسألني إن كنت بخير. لم يكن هناك سوى رجل يلبس الأبيض لم أعرف إن كان طبيباً أو ممرضاً، لم ينظر إليّ، رحت أحاول كسر جمود عيني علّني أحظى بنظرة منه تعلق بنظرتي المتوسّلة. انتظرت حتى دخلت في حالة هلوسة عجيبة أتت بأروع نصّ يمكن أن أكتبه في حياتي، لكن للأسف لم يبق منه كلمة في رأسي.
حضرني درويش بجداريته وموته المتوهَّم، حلّقتُ في بياضٍ بنكهة الطعن، كان يتحول إلى لا لون كلما اشتد بي الألم. كنت أموت على مدار الثواني التي تحوّل عقربها إلى سلحفاة لئيمة.
بعد ما يقارب الساعة ناديته، وإذا به ينهض من كرسيه مشرئباً سائلاً بلهفة: تتحدّثين الإنكليزية؟ فأخبرته بأنني أحتاج أن يساعدني في تعديل وضعية استلقائي. سارع وفعل ثم ركض ليكلّم أحداً في الخارج.
لم أكن أعي ما يحدث، أخيراً دخل عدد من الأشخاص ليخبروني بأنّهم تأخّروا في إدخالي إلى العمليات لأنّهم أرسلوا في طلب أحد الممرضين الذين يجيدون العربية من خارج قسم العمليات ظنّاً منهم أني لا أتكلم الإنكليزية، وفي اللحظة نفسها دخل ممرض قصير القامة وبدأ يكلمني بعربية تشي بأنه جزائري.
أخبرني بأنه سيرافقني في الدقائق الأولى من التخدير فقط كي أكون مطمئنة وهادئة ريثما يعطوني إبرة الظهر الحسّاسة جدّاً.
"وأنا أطلق آهاتي وأبكي... وحدهما وجها أبي وأمي حضراني لحظتها دوناً عن كلّ الوجوه التي أحبّ"
"لن يعلم أحد كُنْهَ ذلك الرابط العجيب الذي ربط بيني وبينه، والذي لم ينقطع بانقطاع الحبل السري، خزّان أسرار الحياة"نقلوني إلى العمليات وكأني انتقلت من غيبوبة إلى أخرى. أجلسوني على سرير مرتفع وأمسكني العربي من كتفيّ بقوة كمن يريد الهيمنة عليّ بسلطان ما، دون أن يكف عن إخباري بأنه هنا لدعمي. شعرتُ بتيّار قويّ يسري في جسدي، لكني استجمعت هشاشتي ودخلت معهم في مفاوضات بخصوص التخدير. كنت رافضة أن أظلّ مستيقظة في أثناء الولادة، وحاولت إقناعهم بأني أفضّل التخدير العام فرفضوا شارحين الأسباب. لم يستغرق إقناعي أكثر من بضع دقائق، استسلمت لهم وتركت نفسي أتوّج كل تلك الشهور الأليمة بشيء استثنائي لم أتخيّل في حياتي أن أختاره أو أُجبر عليه، وقد لا يتكرر مرة أخرى، لذا قررت أن أعيشه بكل ما سيحمله لي مهما يكن، فاللحظة تستحق هذا الموقف الملتبس بين التحدي والاستسلام. أما العربي فاقترب مني بعينين غريبتين، وهمس ببعض الأدعية وتلاشى مثل جنّي لم يخلُ حضوره من ريبة أوقعها في قلبي منذ أول لحظة رأيته فيها. مدّدوني ووضعوا يديّ في وضعية الصلب. أحاول الآن أن أتذكر ما إذا ربطوهما أم خيّل لي ذلك، ثم ثبّتوا قطعة قماش كبيرة حجبت جسدي عني، وتحديداً النصف الذي لم أعد أشعر فيه مطلقاً. وما هي إلا لحظات حتى واصل قدري كأنثى ممارسة عنفه المعهود ضدّي، حيث باشروا بتمزيق جسدي، في حين لم أستطع رؤية سوى لون القماش الذي بدأ كستارة تطلّ من خلفها وجوه الطاقم الطبي مثل مسرحيين كرّروا أدوارهم هذه إلى درجة أنهم باتوا يلعبونها دون إحساس ينعكس على ملامحهم. بعد دقائق اقترب طبيب التخدير ليطمئن إن كنت بخير، فأجبته بهزّة رأس اهتزت معها الغصّات التي كانت مجتمعة فيه، ليتابع ويشرح لي أني بعد قليل قد أحسّ بتسرّع في القلب من تأثير مواد التخدير. لم يكن بين وجوه الطاقم واحد غير مُطَمْئن على الرغم من برودهم، لم يكفّوا عن دعمي بابتسامات وإن كانت غير متعاطفة. دقائق واستقلّ قلبي طائرته نحو والديّ، وانتابني دوار رهيب جعلني أطلق آهات تشبه الحشرجة. وحدهما وجها أبي وأمي حضراني لحظتها دوناً عن كلّ الوجوه التي أحبّ "وما أندرها!"، وشعرت بيدي المصلوبتين وكأنهما انفصلتا عني وعُلّقتا في وحدةٍ باردة. اقترب طبيب التخدير وأنا أطلق آهاتي وأبكي، وأمسكَ يدي مؤكداً لي أن هذا طبيعي بسبب هبوط الضغط، لكني أحسست بارتباك بينهم نتيجة هبوط زائد في ضغطي. كان صوت نبضي يزيد من قوة حضور أبي وأمي فأزداد بكاء. مضت حوالي عشرين دقيقة على بدء العمل الجراحي، فاقتربت مني ممرضة وأخبرتني أن إخراج الطفل قد اقترب. بدأت ألتقط أنفاسي وأحاول أن أتماسك وأُنسي نفسي ما يحدث خلف الستارة من دماء وأحشاء ومقصّات، وفيما أنا مترقبة وإذا بي أحسّ بقوة شدّ عجيبة مثل من يقتلع شجرة من جذورها الضاربة عميقاً. استمرّ الشدّ لثوان ثم سمعت شهقته. هكذا اقتلعوا جول من أحشائي، خارجاً من الجرح الصغير حاملاً دهشة الكون. قمّطوه بغطاء ساخن، ووضعوه على كتفي الأيسر، وإذا بكائن جميل فاتحاً عينيه منذ اللحظة الأولى، ينظر إليّ وكأنّ خرافة قد قذفت به من حيث لم أدرِ ولم أشأ، لكنه جاء مني، من ذلك الجوف العجيب القادر على إنجاب حيوات جميلة مثل هذه الحياة التي حطّت على كتفي. بدا وجهه الصغير مرتاحاً، ولم يكف عن التحديق فيّ والتلمّظ ليخبرني كم هو جائع. رحت أقبّله بين عينيه، أكرّر القبلة مراراً ولا أشبع، وأتمتم وأكلّمه، كنتُ أسأله هل هو بخير، هل تأثّر بأحد الأدوية التي كنت أتناولها قبل أن أعرف بوجوده، هل أزعجته المشكلة الصحية التي عانيتُ منها طوال أشهر الحمل ودخلت بسببها المشفى، هل شعر بالتعب في أثناء الطيران الطويل إلى كندا؟ كنت أبكي وأضحك، بدوتُ مثل من كانت فاقدة لعقلها وعاد لها، فأول عودة التائه إلى رشده هو التوهان في حد ذاته. سألوني إن كنت أريد أن يزيحوا الغطاء عن صدري كي يتلامس جسدانا فرفضت، لم أشأ أن أضرم مشاعري أكثر، تركت لعقلانيتي أن تتحكّم بي كي لا أنهار قبل أن ينتهي هذا المشهد الهذياني. أبقوه لدقائق على كتفي، ثم أخذوه ليغسلوا جسده ببعض الماء ويصطحبوه إلى أبيه وأخته اللذين كانا يعدّان الثواني، ويغلقوا ما فتحوه في جسدي، ثم ينقلوني إلى غرفة الإنعاش ويكمل جسدي قدره كذلك في أن يتحول إلى مشاع لبعض الأيام. ظلّ جسدانا على تماس لساعات عدّة بعد خروجي من الإنعاش. كنت أحسّ بطاقة خاصّة تخرج مني، وأحسّ كيف تدخل في جسده الصغير. حاولت التحكّم بأفكاري ومشاعري كي لا أبثّه أية شحنات سلبية. وبعد حوالي خمس ساعات حان الوقت ليأخذ حمّامه الأول. قضينا جول وأنا أياماً ثلاثة نشوّش بأغنيات مارسيل خليفة ومايك ماسي على آهات المرأة الروسية الخمسينية التي شاركتني الغرفة، وتابعنا رحلة الأسرار التي بدأناها منذ أول مرّة علمت فيها بوجوده ورأيته على شاشة السونار في أسبوعه السادس، دون أن يعلم أحد كُنْهَ ذلك الرابط العجيب الذي ربط بيني وبينه، والذي لم ينقطع بانقطاع الحبل السري، خزّان أسرار الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين