في أسبوع واحد، نشر موقع "بيزنس إنسايدر" مقالين عن "نقص العمالة" لخبيرين اقتصاديين، أوّلهما قدّمه كخبر سيئ والثاني وصفه بالخبر الجيد. الأول كان يتحدث عن السعودية والثاني عن الولايات المتحدة. فهل هناك تناقض؟ بالطبع لا، فالاقتصاد السعودي المعتمد على عمالة أجنبية يختلف جذرياً عن مثيله الأمريكي المعتمد دوماً على عمالة وطنية. لذلك اختلف الخبيران حيال مسألة واحدة. ولكني سأجادل بأن ما هو جيد للأمريكيين جيد للسعوديين، فأقول إن نقص العمالة في السعودية هو أيضاً خبر جيد. يعرض التقرير الأول اتساع "هجرة الوافدين" من السعودية، ما أدى إلى "نقص العمالة" في السوق وانعكس سلباً على قطاع الأعمال، وقد تلقفه أكثر من طرف إعلامي (في ظل التخندق الحاصل في المنطقة) كمؤشر على فشل خطة الإصلاح الاقتصادي التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ولكن هناك رؤية أخرى تقول إن هذه الهجرة يمكن أن تكون بداية الإصلاح الحقيقي للاقتصاد السعودي إذا كانت ضمن خطة وطنية لإعادة ثقافة العمل والإنتاج إلى المجتمع السعودي. أنا ممَّن يقولون بذلك منذ زمن طويل، وكتبت صراحة أن الاقتصاد الوطني لن يستقيم ما لم يتحرر من حالة الإدمان على العمالة الأجنبية التي تسيطر على ثلثي سوق العمل والوظائف، في أكبر اقتصاد في المنطقة.
تحدث التقرير الذي كتبه أمبروز كيري، المدير في مؤسسة أليكو لأبحاث الاقتصاد اللندنية، عن معاناة قطاع الأعمال السعودي من هجرة بلغت 800 ألف وافد، رحلوا منذ أواخر 2016، فبات الأمر يضغط على الدولة لتخفف من إجراءات السعودة حتى لا تضطر شركات عدة للخروج من السوق، خصوصاً مع حالة "فقدان الثقة" في السوق، والتي أعقبت حملة مكافحة الفساد وهجرة رؤوس الأموال وانخفاض الإنفاق الحكومي وتراجع الاستثمارات الأجنبية بشكل حاد. كل ما سبق هي تحديات حقيقية لعملية الإصلاح، ويمكن النظر إلى وجاهة الجدل حول الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد المحلي من جراء "هجرة الوافدين" إذا نظرنا إلى المملكة العربية السعودية كشركة تبحث عن الربح.
أما إذا نظرنا إليها كدولة معنية بمواطنيها واقتصادها الكلي على المدى البعيد فإن "هجرة الوافدين" خبر طيب وبداية لإصلاح حقيقي. المملكة ليست "شركة" وإنما "دولة"، والدولة معنية باستمرارها وأمنها، والقضية سياسية أيضاً، وليست مجرد مسألة تحقيق "أرباح". مع سيطرة الأجانب على ثلثي سوق العمل السعودي، سيستحيل على الأمير محمد بن سلمان بناء طبقة عاملة سعودية منتجة تجد طريقها إلى مشاريعه العملاقة الطموحة، بل قد يكون الأفضل تأجيل تلك المشاريع العملاقة حتى يعود السوق السعودي إلى طبيعته كسوق وطني ويعود المواطن إلى ثقافة العمل.
السوق السعودي، كما هو اليوم، هو سوق عملاق ابتداءً، وقبل "نيوم" و"مشروع البحر الأحمر"، ولا يحتاج غير استعادته مجدداً كسوق وطني بإعادة المواطن إليه عاملاً ومالكاً وهذا غير قائم حالياً. يجب أن نمتلك الشجاعة ونعترف بذلك، وأن لا ننزعج من تقرير "بيزنس إنسايدر" عن المولات التي تغلق والمتاجر التي تُهجَر. لنتذكر أننا توسعنا بهذه المتاجر فوق حاجة السوق. لا بأس بانكماش تصحيحي. في نفس الموقع قصة أخرى عن "نقص العمالة" في أمريكا، ولكن كاتبها يصف ذلك بأنه "خبر عظيم للعمال" الأمريكيين بالطبع. فكيف يكون "نقص العمالة" في أمريكا خبر جيد، ونقصهم في السعودية فشل اقتصادي؟ السبب أن الاقتصاد الأمريكي لا يعتمد على العمالة الوافدة، ولكن يمكن تطبيق نظرية جوش بارو، كبير المحررين في الموقع وصاحب المقالة الثانية، على السوق السعودي واكتشاف فوائد نقص العمالة، شرط أن تكون هناك خطة وطنية للصبر على آثار "نقص العمالة الوافدة" في السوق السعودي.
فوائد "نقص العمالة"
يرى بارو أن لنقص العمالة فوائد جمة سيستفيد منها العمال أولها "رفع الأجور"، فمع نقص العمالة سيضطر صاحب العمل لإغراء المترددين من دخول السوق بدفع أجور عالية لهم، والسعودي هنا لا يختلف عن الأمريكي (الفلوس تغيّر النفوس)، وكما يقول بارو إن الناس يعملون من أجل المعيشة. وهذا حال كثير من السعوديين العاطلين عن العمل، فإن توفّرت لهم مغريات سيدخلون سوق العمل بغض النظر عن طبيعة العمل، رغم أن كثيرين قالوا في التقرير الأول إن السعوديين يعزفون عن الأعمال "المتواضعة" التي تَوافَق المجتمع على أنها للأجانب. تثبت نظرة سريعة لواقع السوق السعودي خلال العقد الأخير عدم صحة ذلك. نعم، هناك كثيرون لا يزالون يعيشون عقدة "العيب"، ولكن في مقابلهم هناك عشرات الآف من الشباب والشابات الذين تجاوزوها وباتوا يعملون في شتى قطاعات الخدمات والتجزئة. ونجاح هؤلاء سيشجع أولئك المستسلمين لثقافة "العيب" ونظرة المجتمع.جمال خاشقجي في رصيف22: الاقتصاد السعودي لن يستقيم ما لم يتحرر من حالة الإدمان على العمالة الأجنبية التي تسيطر على ثلثي سوق العمل والوظائف، في أكبر اقتصاد في المنطقة
جمال خاشقجي في رصيف22: مع سيطرة الأجانب على ثلثي سوق العمل السعودي، سيستحيل على الأمير محمد بن سلمان بناء طبقة عاملة سعودية منتجة تجد طريقها إلى مشاريعه العملاقة الطموحة، بل قد يكون الأفضل تأجيل تلك المشاريعنحتاج فقط إلى الصبر حتى يتحرر المجتمع من تلك القيود. لنتذكر أن آباءنا كانوا يعلمون في كل القطاعات، وثقافة العيب مستجدّة وترسخت خلال العقود الثلاثة التي سلّمت فيها السعودية، مجتمعاً وحكومة، السوق للأجانب. إن دخول الشباب إلى أول درجات السلّم الوظيفي سيكون بحد ذاته إنجازاً، فمن هناك سينطلقون إلى ما هو أعلى وأعلى خاصة إذا كانت هناك مؤسسات تتابعهم وتشجعهم خلال سنوات التحوّل. الفائدة الثانية هي "التدريب"، إذ لاحظ بارو أن كثيرين من أصحاب العمل في أمريكا يتحاشون رفع الأجور بتوفير التدريب، ونفس الشيء يمكن أن يحصل في المملكة، خاصة مع توفر برامج تحفيزية للدولة لتعويض رب العمل.
وحتى إذا لم تتوفر المحفزات، فإن صاحب العمل سيستمر في توفيق مصلحته مع مصلحة السوق والعمالة الوطنية إذا ما أدرك أن الدولة لن تتنازل وتعطيه التأشيرات التي يريدها، حتى يصل الجميع إلى حالة "متوافقة" ترضي الجميع. الفائدة الثالثة هي "تخفيض اشتراطات التوظيف"، إذ لاحظ بارو أن كثيرين من مدراء الموارد البشرية يتخلون عن الاشتراطات المثالية التي وضعوها في ظل ارتفاع البطالة، كالخبرة والشهادة الجامعية، وباتوا يقبلون بخريجي الثانوية.
نفس الشيء أتوقع أن يحصل في المملكة، فطالما أن صاحب العمل يستطيع أن يستقدم عمالة أجنبية مؤهلة وذات خبرة وبشهادات جامعية، سيكرر فكرة أن السعودي يفتقد إلى الخبرة والمعرفة اللازمة للوظيفة. ولكن بعدما ييأس من التفات الدولة إلى رغباته "الأنانية" هذه، سوف يقبل بالسعودي الأقل تأهيلاً ويعمل على تدريبه، والاستثمار فيه. المفارقة الظريفة أن بارو يستخدم مصطلح "الأنانية" لوصف منطق صاحب العمل وهو نفس المنطق الذي يجب أن تعتمده الحكومة السعودية وهي تسمع احتجاجات وشكاوي رجال الأعمال. فهو يصف طرح الأسئلة حول ما إذا كان على الحكومة الأمريكية توفير مزيد من تأشيرات العمالة المؤقتة أو رفع نسبة الفائدة لوقف نمو الاقتصاد بأنها أسئلة خاطئة ومتأثرة "بالنفوذ المبالغ فيه لأصحاب الأعمال في العملية السياسية".
أستطيع أن أستخدم نفس الجملة لانتقاد نفوذ رجال الأعمال السعوديين وضغطهم على القرار السياسي في المملكة. لذلك، فإن "نقص العمالة" الوافدة في المملكة خبر جيد للاقتصاد الوطني السعودي، مثلما هو خبر جيد لمثيله الأمريكي، نحتاج فقط للصبر، وأن تركز الدولة على إصلاح أساس الاقتصاد السعودي ليكون سوقاً وطنياً يعمل به سعوديون. هكذا الحال في كل دول العالم وليس في كل ما سبق ذكره عنصرية أو تمييز وإنما طرح اقتصادي صرف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاترائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين