مع قيام الثورة، اعتقد التونسيون أنهم تجاوزوا، وإلى الأبد، حقبات من الظلم وأنه لا مجال بعد اليوم للرجوع إلى الممارسات القمعية وإلى التعذيب في مراكز الاعتقال والسجون. ولكن، بعد ثلاث سنوات يُطرح السؤال: هل جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن التونسيين؟
تغيّر ملحوظ ولكن غير كافٍ
لأول مرّة في التاريخ التونسي تمّ استحداث وزارة مختصة بحقوق الإنسان بعد الثورة. إلا أن منظمات وجمعيات حقوقية تونسية عدّة دقت ''ناقوس الخطر'' محذرة من استمرار جرائم التعذيب داخل مراكز الإيقاف وداخل السجون.
في حديثه لرصيف22 عن ملف التعذيب في تونس بعد الثورة، يؤكد منذر الشارني، الكاتب العام للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، أن تلك الممارسة وإن خفّت حدّتها بشكل واضح مقارنة مع ما كان عليه الوضع أيام حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إلا أنها لا زالت موجودة بشكل لافت داخل مراكز الإيقاف التابعة للشرطة وللحرس وطني.
خلال السنة الحالية، وصل إلى مكاتب المنظمة ما يقارب 80 شكوى من أشخاص تعرضوا للتعذيب ومورست ضدهم أساليب مهينة للكرامة الإنسانية كتعليق الموقوف وهو موثق اليدين والرجلين في مكان مرتفع جداً، أو تعليقه بشكل يكون فيه الرأس إلى الأسفل والرجلان إلى أعلى، عدا عن الضرب المبرح على أماكن حساسة من جسده.
في حالات عدّة ثارت جدالات حول وفاة موقوفين تحت التعذيب. توفي السجينان علي اللواتي ومحمد على السنوسي في سجن برج العامري في شهر سبتمبر 2014 وقيل أن السبب هو تعرضهما للتعذيب.
وكان قد تعرّض الشاب محمد صدقي حليمي للتعذيب بشكل مهين ومذل. فبعد ضربه، جُرّد من ملابسه وقام أحد عناصر الأمن بضربه بإدخال عصا في مؤخرته ليسبب له نزيفاً وضربه آخر على جهازه التناسلي ما أفقده وعيه. وحديثاً، فقد الشاب عبد القادر الهمامي قدرته على الوقوف بسبب تعرّضه طوال ستة أيام للتعذيب في مركز اعتقال. أما الشاب سيف النصر الهادف فقد ضُرب ضرباً مبرحاً وصعق بالكهرباء. هذا عدا عن حالات أخرى رصدتها المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب.
يوضح رياض فرحاتي، وهو كاتب عام أحد فروع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لرصيف22 أن التعذيب في تونس، قبل الثورة، كان يمارس ضد سجناء الرأي والمعارضين السياسيين وكان تعذيباً ممنهجاً يهدف إلى كم أفواه المعارضين وحفظ النظام. أما بعد الثورة، فقد خفت الوتيرة إلى حد ما لتنحصر ممارسات التعذيب بأعمال فردية. لم يعد التعذيب يستهدف سجناء الرأي والناشطين السياسيين بل صار الهدف منه قمع الاحتجاجات التي تندلع من حين إلى الآخر كرد فعل على البطالة والفقر والتهميش وغلاء الأسعار. برأي فرحاتي، فإن أحد أسباب استمرار ظاهرة التعذيب هو تصدّي النظام للإرهابيين وهذا ما يمكن أن يفرز أشكالاً من التعامل مع الناس فيها الكثير من الغلظة والشدة والقسوة.
دور جمعيات المجتمع المدني
تضطلع منظمات وجمعيات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية منها، بدور رائد في رصد الانتهاكات وكشفها. بعض هذه الجمعيات كان ناشطاً قبل الثورة وبعضها الآخر كان من إفرازاتها مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب ومنظمة حرية وإنصاف والمرصد التونسي لحقوق الإنسان وهيئة الحقوق والحريات الأساسية.
تقوم هذه الجمعيات بزيارات إلى مراكز الإعتقال وتتحدث مع ضحايا ممارسات التعذيب ومع عائلاتهم وتحضر محاكماتهم. كما تعمل جاهدة على التعاون مع الوزارات المعنية كوزارة الداخلية ووزارة العدل وحقوق الإنسان وتلفت نظرها إلى وجود تلك الممارسات وتحثها على القيام بما تراه مناسباً للوقوف في وجه من يرتكبها.
من ناحية ثانية، تنظم تلك المنظمات الوقفات الاحتجاجية وتحشد الرأى العام وتصدر البيانات التي تفضح الانتهاكات كما تنظم مؤتمرات وندوات حول مسائل مرتبطة بحقوق الإنسان. وبذلك تلعب دوراً هاماً في إطلاع التونسيين على التجاوزات المرتكبة بحقهم والتي ما كانوا ليعلموا بها في ظل تعتيم وسائل الإعلام نسبياً على هذه المسائل.
تاريخ قاتم ومفزع
يُعتبر التعذيب في تونس أحد أكثر الملفات الموجعة والحارقة الموروثة من النظام السابق، ذلك أنه لم يستثن أحداً وطال الطلبة والنقابيين واليساريين والإسلاميين وكل من كان يحمل رأياً مخالفاً للسلطة التي حكمت البلاد طيلة أكثر من نصف قرن. لقدبلغ عدد المساجين السياسيين تحت حكم بن علي الآلاف مات العديد منهم في السجون وداخل زنزانات وزارة الداخلية تحت التعذيب.
أبرز الأحداث التي ارتبطت بتعذيب النقابيين هي ما عرف بـ"أحداث 26 جانفي (يناير) 1978". على أثر موجة من الاعتقالات، توفي النقابي حسين الكوكي تحت التعذيب في فبراير 1978 كما تعرض أكثر من 30 نقابي للتعذيب الشديد الذي وصل إلى حد اقتلاع أظافر البعض.
ذات المشاهد تكررت خلال أحداث ما عرف بـ"انتفاضة الحوض المنجمي" سنة 2008. إلى الضرب والإهانات، أجبر بعض الموقوفين على التوقيع على محاضر معدّة مسبقاً كما تم التحرش جنسياً بالموقوفات والتهديد باغتصابهن بحضور أقاربهن.
قبل اندلاع الثورة، بلغ التعذيب مستويات غير مسبوقة. ابتكرت أجهزة الأمن أساليب بشعة لتعذيب المعتقلين وتحطيم معنويات الموقوفين كإجلاسهم على قوارير زجاجية مهشمة وإحراقهم بالسجائر وصعقهم بالكهرباء وضربهم على أظافرهم واقتلاعها وإحراقهم باستعمال الأليمنيوم وتغطيس رؤوسهم بالماء الملوث. ووصل التعذيب النفسي إلى أقصاه حين كان يتم إحضار زوجة الموقوف وتعريتها أمامه لمزيد من الإذلال.
يمكن القول أن التعذيب في تونس يبقى من الملفات الموجعة في تاريخ البلاد. ينتظر التونسيون من السلطة أن تصارحهم بخفايا هذا الملف وكشف جميع الجرائم ذات الصلة. بعد الثورة كبر أمل التونسيين وطالبوا بمحاسبة كل من أجرم بحقهم وانتهك حقوقهم تمهيداً لقيام مصالحة عامة بينهم. اليوم السؤال هو: هل تبخّر الحلم بسبب التجاذبات السياسية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...