انتهى كل شيء الآن، لم يعد بوسعنا إلا أن نتحسّر على ما فُقد من آمال وعلى ما بحّ من حناجر، على الآهات التي تصاعدت والزفرات التي اختنقت، انتهى كل شيء، عاد أشباهنا إلى مدن الصفيح وبيوت المقابر وكرات الجوارب المحشية قطنا وسقط متاع وعدنا نحن إلى خيباتنا المؤجلة مرة أخرى.
إذ كنا في أغلب الأحيان خائبين من فرقنا الرياضية واتحاداتنا وحكامنا ومحافظينا ورؤسائنا وأزواجنا وأبنائنا، خيبة أخرى تكاد لا تشكل فرقا بالنسبة لنا، لا فرق حقا، لنعد إذن إلى ما نبرع به: التحسّر على ضياع فلسطين وشتم الأعداء بطريقة مبتكرة.
انحزنا وننحاز إلى أولئك الفقراء، أشباهنا في العزلات وفي الديكتاتوريات المتعاقبة والمتوارثة، انحزنا إلى أمثالنا في الدمع والخوف والدم، لكنهم حقا لم يكونوا مرة جديرين بانحيازنا إليهم، لم يكونوا مرة يستحقون دموعنا وصرخاتنا وقبضاتنا المضمومة في وجه العارضة أو الحكم أو القدر الأحمق.
لا لأنهم لا يستطيعون ركل كرة خفيفة وماكرة كثعلب في أكمة ولا لأنهم يفتقدون إلى الرغبة العارمة بالسحق والفوز بل لأنهم خارج الحاضر وخارج العالم، يعيشون في عالم خاص بهم فقط، مثلنا، يعيشون في مزارع مسيّجة بالعسكر وسجون عالية الجدران، يعاملون كل شيء بنفس الطريقة.
كيف نريد منهم، وكيف نريد منا أن يكون لديهم ولدينا منتخبا كرويا جبارا يستطيع التغلب على منتخبات مرسومة بالفرجار، أغذية وتدريبا وخططا، عقليا وجسديا، وهم ونحن لم نتغلب مرة على رغبة رئيس بلدية صغير في بلدة منسية، وهم ونحن لم نكن مرة هم ونحن، بل كنا الآخر الغائب، المرئي في جلسات الانتخاب وإعادة الانتخاب وإعادة إعادة الانتخاب والصور الوثائقية وحفلات التنصيب.
بعد خيبة المونديل، لنعد إذاً إلى ما نبرع به: التحسّر على ضياع فلسطين وشتم الأعداء بطريقة مبتكرة
فرقنا الرياضية على شاكلتنا، رئاتنا المتسرطنة على مقاس أنفاسنا، وحده اليأس اليائس يتعاظم ويغطي يومنا، يتزايد وينمو ويكبر ويصبح مصيرا لأمةلم نتحدث مرّة بلساننا بل نتحدث دوما بلسان السيد الحاكم ولسان أخوته وأبناء عمومته وخؤولته، نتنفس مآربه ونتغوّط فضلاته ونأكل ما تستورده شركاته المغطاة بشركاء / أجراء، لم نكن مرة جديرين بفوز على ظل مهتز على الجدار، على لافتة معلقة بمدخل أحد الأبنية الحكومية، على صورة صدئتها شمس تموز، ببركة عناصر المداهمة والأفرع الأمنية فكيف نفوز على أحد وكيف ننتصر على شيء. مرة أخرى سيثبت الغرب أنه الأجدر بقيادة العالم، في الاقتصاد والسياسة والحروب، والأجدر بكأس العالم إذا قيض لنا المشاركة في التصويت، أي الأجدر باستعمار العالم وتصحيحه وتثبيت ركائزه على ما تراه معاهده وجامعاته واستخباراته وأيضا فرقه الرياضية ومنتخباته واتحاداته. مرة أخرى يثبت الغرب أن الأجدر هو الأجدر، أن الجدارة هي من تنتصر ولا فرق هنا بين مدرب منتخب وطني ورئيس جمهورية، بين مربي أبقار وكاتب أغاني شعبية، الجدارة هي من تتكلم في معارض البحث عن تنصيب وترؤس، الجدارة هي من تفعل فعلها السحري في المباريات كما تفعله في السياسة، والأجدر قد لا يكون بالضرورة هو الأفضل حتما، لكنه انطباق عقل المنافسة على عقل القدرة. مرة أخرى يثبت الغرب أنه لا يصح إلا الصحيح، حتى لو أعطت الطبيعة ملايين الأمتار المكعبة من نفط الآلهة أو غاز الملائكة إلى شعوب متكاسلة، أو منحت الصدفة شواطئ ساحرة ومساحات زراعية هائلة إلى تلك الشعوب إياها، فحتما ستضيعها بما لا يفيد وسيتطاير الغاز في الهواء جذلا وسيضيع النفط في خدمة المصاريف السرية للآل السعيد. أتحدث طبعا بوصفي سوريا ومصريا ومغربيا وتونسيا وأيضا أرجنتينيا وأورغويانيا وبرازيليا، كل هذه الدول العملاقة بمساحاتها وقدرات أبنائها تستحيل صفرا عظيما أمام دولة صغيرة بحجم مزرعة من مزارع قادتنا التاريخيين، ما هي تلك الدول بحق الجحيم وأخته جهنم، وفي وطني من يملك مزارع بحجمها تماما أو أقل بقليل. من هو هذا المدرب الأوربي الذي يسحق بسهولة أي فريق خصم إعلاء لعلمه الوطني وفي بلادنا المسماة عربية من يبيع الوطن وسواحل الوطن وأظافر الوطن بسنين إضافية على السدّة. ما هو هذا الوطن الذي يموتون لأجله ونحن ما عرفنا الموت إلا على يد أخوتنا وأبنائنا إنفاذا لرأي الحزب الحاكم، فرنسا، اسبانيا، السويد، انكلترا، انظر كيف يستحضرون أبطالا منسيين من دول قصية وفقيرة ويمنحونهم الجنسية ليس فقط كورقة أو جواز سفر إنما يمنحونهم هذه الهوية المفقودة لدينا، الكبرياء الإنساني، الكرامة الشخصية، المعنى الأساسي لوجودهم كبشر لا كأجراء في مزارع القادة المفدّين وبساتينهم الضامرة. لم يتحدد بعد البطل الذي سيتربع على عرش هذه المقتلة العالمية، وإن تراوحت التوقعات بين دول أوربا الغربية على الأغلب، لكن المهم أن المنتخبات العربية الأربعة قد أضحت خارج السباق المونديالي تقريبا، كما يجب أن يكون. وربما كانت الدهشة قد تعاظمت لو تحقق لأحدها هذا الاختراق والانتقال إلى الدور الثاني، هذا هو المكان المفضل لنا، هذا هو السياق الطبيعي، في أدنى سلم الترتيب الحضاري، التصنيف الحقوقي، الحريات، الصحافة، الاعتقاد، الانتخاب، التظاهر، الولاء، وأيضا حرية ركل الكرة الملونة نحو جدار أصم، أصم تماما. شعوب مهزومة أبدا فكيف تنتصر على التاريخ، شعوب ركّعتها أفانين الاحتفاظ بالسلطة وأخضعها الرغيف القاتل فكيف تنتصر على العقل المدوّر والبارد كزجاجة بيرة، ذلك أن فرقنا الرياضية على شاكلتنا، رئاتنا المتسرطنة على مقاس أنفاسنا، أقدامنا العارية على مقاس حفرنا، وحده اليأس اليائس يتعاظم ويغطي يومنا، يتزايد وينمو ويكبر ويصبح مصيرا لأمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 20 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت