"فتشرّبتُ بالليل كله حتى صرت سوداء، كي تتمتع بالنور الصافي. الليل المحبوس في داخلي، أخاف أن أفتح فمي فيغرقك ويلفّك بظلمته البهيمة. الليل المتربص، ألا تراه؟ يتحيّن الفرصة للهجوم عليك وافتراسك. لا تغص عميقاً في عينيّ ولا تطل النظر إليهما. ها أنا أحذّرك".
بمثل هذه المقاطع الشعرية، يبدأ "محمد حياوي" روايته الأخيرة "بيت السودان"، ثم لا يلبث أن ينتقل منها إلى عالم مختلفٍ تماماً لدرجة نظن معها أن الصفحات الأولى في الرواية لا تنتمي إليها، وأنها بمصادفة ما، أو خطأ ما، تسربت إليها. غير أن هذا حكمٌ مبكرٌ جداً، يرافقنا على امتداد الرواية، لكننا حين نصل إلى الصفحات الأخيرة منها يتوضح غموض هذه المقاطع وتنكشف أسرارها، وتنغلق دائرة السرد فاتحةً باب الدهشة.تدور أحداث "بيت السودان" في بيت تسكنه مجموعة من النساء والفتيات، يستقبلن فيه ليلاً رجالاً يريدون متعة التفرّج على جلسات الطرب والرقصتكتسب الرواية اسمها من المكان الذي تدور فيه معظم أحداثها: "بيت السودان"، وهو بيت كبير تسكن فيه مجموعة من النساء والفتيات سوداوات البشرة، يمتهنّ الرقص والغناء والعزف، ويستقبلن فيه ليلاً الرجال الذين يريدون الحصول على المتعة البريئة بالتفرّج على جلسات الطرب والرقص. في هذا البيت، نشأ "علاوي"، الصبي ذو البشرة البيضاء، والذي تدور حوله القصص والحكايات، فكيف جاء هذا الطفل الأبيض إلى بيتٍ كل ساكناته من سود البشرة؟ تدور الأقاويل حوله، فبعضهم يقول إنه ابن "ياقوت" التي أحبت رجلاً أبيض وأنجبت منه قبل أن يرحل ويتركها، وبعضهم يقول إنها وجدته ملفوفاً بالقماش في الشارع، فأشفقت عليه وقررت أخذه والاعتناء به. ومهما يكن من أمر، فإن العلاقة بين "علاوي" و"ياقوت" علاقة غامضة، يشكّل الصراع في داخل كل منهما بشأنها، إحدى عقد حبكة الرواية، خاصة بعد أن يشبّ الطفل وتبدأ مشاعر الحب تجاه من ربته بالسيطرة عليه، وتكون هذه المشاعر نفسها تعبث بها أيضاً.
"هي أمي وليست أمي، وحبيبتي وليست حبيبتي، وملهمتي الغامضة وحارستي الأمينة وأسيرتي الملهوفة التي تأسرني بدورها. كانت تلك العلاقة الغامضة التي تجمعنا مبعث قلق وحيرة بالنسبة إليّ، فلا هي تفكّ أسري ولا هي تطفئ ناري، ولا هي تسمح لي بإطفاء تلك النار التي باتت تأكل أحشائي وتمزقني من الداخل".
"استلقت ياقوت مستسلمة بهدوء تاركة الضوء الخافت يرسم تضاريس جسدها العاجي. وعندما طال انتظارها، نهضت واحتضنتنا نحن الاثنين وعانقتنا، فشعرت كما لو أن عموداً حامياً من رخام التصق بجسدي الجافل، ثم طبعت قبلة طويلة على شفتيّ، قبل أن تشرئب بعنقها الطويل وتعانق عفاف وتطبع قبلة على شفتيها أيضاً".
يدمج "حياوي" الغرائبية والأسطورة جنباً إلى جنب مع الواقع، فواحدٌ من شخصيات الرواية، هو "ضمد"، وهو رجلٌ يعيش في منطقة "أور" التاريخية، التي تحوي الكثير من الآثار السومرية، لديه القدرة على قراءة الرٌّقم الطينية الموجودة هناك، وهذه الرُّقم تخبره بما سيحدث، وبخاصة عن دمار المدينة وخرابها وبأن ثروات أور وكنوزها ستصبح في أيادٍ مدنسة. ويزيد من أسطرة هذه الشخصية وغرائبيتها تحقق النبوءات والتكهنات التي يطلقها بعد الاحتلال الأميركي للعراق. يمرر الكاتب ضمن نبوءات "ضمد" مصير بيت السودان، وغيره من الأماكن الشبيهة، من دون أن يسميه، ولن نكتشف ذلك ومعناه إلا في نهاية الرواية التي تعيدنا من جديد إلى البداية، وتجعلنا نفهم أن كل ما سبق وقرأناه لم يكن كما ظننا أول الأمر. محمد حياوي: كاتب عراقي مقيم بهولندا. حاصل على ماجستير في التصميم الغرافيكي. له مجموعتان قصصيتان: "غرفة مضاءة لفاطمة"، "نصوص المرقاة". كما صدرت له أربع روايات: "ثغور الماء"، "طواف متصل"، "خان الشابندر"، "بيت السودان". الناشر: دار الآداب/ بيروت عدد الصفحات: 168 الطبعة الأولى: 2018 يمكن شراء الرواية من متجر جملونرصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...