طوق الحمامة: لماذا نُحبّ؟
"القلوب بيد الله عز وجل": آداب الحب والجنس في العصر الإسلامي الوسيط
ظهر في القرن الخامس الهجري، في الأندلس، ما يمكن أن نسميه بالمعجم الأول في الحب والعشق في الحضارة الإسلامية، وهو "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف"، والذي صنفه الفقيه الظاهري القرطبي الأشهر أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (456هـ/ 1064)، والذي عرف إلى جانب مناصبه السياسيّة، باجتهاده الفقهي، وبحثه الفلسفيّ في العقائد والمللّ، ليكون طوق الحمامة بحث فلسفي في الحبّ كظاهرة بشريّة، إذ يقول "الحب - أعزك لله - أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل".هل يمكن أن يعشق المحبّ حبيبين في الوقت نفسه؟ هذا ما يراه ابن حزم الأندلسي مستحيلاً مفرقاً ما بين الحب والشهوة
لماذا ركّز التيفاشي على نوادر وأقاصيص جنسيّة وإباحيّة في كتابه "نزهة الألباب"؟فـ"تعريف" الحب الذي يضعه، يتقصى علامات الحب، وكيف يدركه الواقع به، إلى جانب حدوده سواء جسديّاً، أو ثقافياً عبر الإحالة إلى الرأي الديني و"الشريعة" التي ترسم ضوابط المحللّ والمحرم، لنرى القرطبيّ كطبيب يدرس أعراض "المُحب"، وخصوصاً لما قد يحمله الحبّ من فتنة للعقل، وهذه الفتنة لا يدركها إلى من لا ينتمي إلى هذه الظاهرة، إذ يكتب :
"وللحُب علامات يقفوها الفَطن، ويهتدي إليها الذكي؛ فأولها إدمان النظر... ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد يُقبل على سوى محبوبه ولو تعمد غير ذلك... ومنها الإسراعُ بالسيرِ نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمُّد للقعود بقُربه والدنو منه... ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يُشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه فجأة... ومنها أن يجود المرءُ ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعًا به قبلَ ذلك... ومن علاماته حُبُّ الوحدة والأنس بالانفراد، ونُحول الجسم دون حدٍّ يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي".
كيف نقع بالحب؟
بعد التأسيس لظاهرة الحب و أعراضها، يطرح الفقيه الأندلسي في كتابه سؤالاً مازال حاضراً حتى الآن، "كيف يقع الفرد بالحب؟" هل يتم ذلك من النظرة الأولى أم يحتاج للكثير من المطاولة والمعاشرة؟، وكأي فقيه أو فيلسوف ، ينفي الأندلسي ذاته من البحث، ليكون موضوعة محايدة لا تخضع للصدفة، إذ يقر بإمكانية حدوث العشق من اللحظة الأولى، إلا أن ابن حزم يتعجب من ذلك كثيراً، ويعترف بأنه لم يجرب ذلك النوع من الحب أبداً :"وما لصق بأحشائي حُبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهراً، وأخذي معه في كل جدٍّ وهزل".
"دخل الغَلَط على من يزعُم أنه يُحب اثنين، ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة، وهي على المجاز تسمى محبةً لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في المَيل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحبٍّ ثانٍ".
كأن الحب هنا كموضوعة، حكر على اثنين، كونه يتجاوز الغلمة الجسديّة، نحو مساحة معرفيّة يشترك فيها الحبيبان، ليكون محرك لسلوكهما، ليتحول الحب إلى مولد لظواهر ثقافيّة أخرى، إذ يرى أن المراسلة وتبادل المكاتبات ما بين المحبين، هي من أهم تجليات العشق والغرام، مؤكداً على أهمية شكل الرسالة والجهود لجعلها "صادقة"، ويحكي أنه شاهد بعض المحبين اللذين بللوا رسائلهم إلى أحبابهم بدموعهم، وعن البعض الأخر الذي دمغ رسائله بقطرات من دمائه. بعد تناول أحوال العشاق، يعود ابن حزم إلى موقف الفقيه، الذي يحافظ على حياد الفضاء العام، وحرمته، وهيمنة الوازع الدينيّ على العلاقات، ليكون الحبّ العلنيّ كحدث اجتماعي لابد من اجتنابه، والعمد على تركه أسير القلوب والهمس والخلوات، إذ يرى أن الإعلان عن الحب وكشفه وإذاعة أخباره ما بين الناس، خطأ كبير لا يقع فيه المحب بإرادته، بل ينقاد إليه مأخوذاً بعشقه لمحبوبه. ويحكي قصة فتى وفتاة اتفقا على ألا يفترقا أبداً عن بعضهما البعض، حتى إذا اضطر الرجل إلى الاجتماع برفاقه، اضطجع في مجلسه بجوار ستار، ومد يده من تحت هذا الستار ليلامس يد محبوبته على الجهة الأخرى، فيبقى حبل الوصل ما بينهما حاضراً في كل حال. يختم ابن حزم مصنفه بأحاديث عن غياب المحبوب، وكأن غيابه كحضوره يذهل العقل، أن يتعرض للمحبين الذين أخفقوا في عشقهم، أو الذين رحل عنهم أحبتهم، فيذكر قصص بعض معارفه من مشاهير الأندلس في زمانه، ممن طالتهم يد الغدر أو الهجر والبعد، ووصل بهم الألم والحزن إلى المرض والنحول والهزال، بل وفي أحيان أخرى آل أمرهم إلى الشرود والذهول والجنون، فماتوا وحيدين في عزلة عن الناس، وصارت حكاياتهم أمثلة معبرة عن المحبين اليائسين.نزهة الألباب: الظرفاء المنحرفيّن
نال كتاب "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" شهرة واسعة، في زمنه وحتى الآن، كون مؤلفه شرف الدين أحمد بن يوسف التيفاشي (تـ. 651هـ/ 1253م)، يروي فيه نوادر وأقاصيص جنسيّة وإباحيّة، كما يحتوي لفظاً واضحاً لأسماء الأعضاء الجنسية، وأوصاف الممارسات الجنسيّة سواء المحرّمة منها أو المحللّة، أو تلك المنحرفة حسب رأيه. المتأمل للكتاب، لا يرى فيه محاولة جماليّة، بل أقرب إلى تصنيف للنوادر والحكايات التي سمعها التيفاشي في حياته كقاض، ليكون أقرب إلى أخبار متنوعة، لمقارنتها مع المرجعيّة الدينيّة والقانونيّة في تلك الفترة، إذ لا نفي للسلطة الدينيّة، بل أقرب لمحاولة عقلانيّة من جهة وطريفة من جهة أخرى، لفهم المفارقات الجنسيّة، وحدود الحلال والحرام، وألاعيب العشاق والقواويد والسفهاء ومدى "شعريتها"، وكأنه حكيم يتفكّه في سرد المعارف على "فحشها". فأول فقرة في أول فصل الكتاب (في الصفع وما فيه من الفوائد والنفع)، تتحدث عن دور العلماء في تعليم الجهّال، ودراسة أحوال البلاد والأقوام، لمعرفة الصواب من الخاطئ، وكأن الكتاب للتأديب، هدفه إيقاظ العقول وتعيين مواطن الشبهات، إذ نقرأ ما نقله عن الشعراء المعروفين اللذين سبقوه، ومنهم بشار بن برد، وزوجته التي كانت تشك في خيانته إياها. فأعدت له اختباراً عندما تنكرت وقابلته كأنها إحدى الجواري، ثم كشفت له عن حقيقة شخصيتها عقب إتمام العلاقة الحميمة، ليتفاجأ، وبعدها تمّ الطلاق بينهما، من طرفها، لأنه خانها، وأما بالنسبة له، فلأنه "ما رأى أبرد منها حلالاً ولا أحر منها حراماً". يستدعي التيفاشي الفقه، للإجابة عن التساؤلات الملّحة عن الإيلاج وأشكاله، والتي تعود إلى بدايات ظهور الإسلام، الذي يقنّن فتحات الجسد، إذ أفرد كلاماً مطولاً عن نكاح الدبر/الشرج، وساق العديد من التفسيرات القرآنية والتبريرات الفقهية التي تبيح ذلك النوع من الإيلاج، كما استقصى أراء بعض مشاهير الرجال والنساء في توصيف اللذة الناتجة عن تلك الممارسة، بوصفها محببّة. ذات الشيء مع مسألة الغلمان، التي يبيّن أنها كانت أمراً معروفاً وشائعاً في زمنه، فهو يورد الأسباب التي تغري الفتيان والغلمان وتجعلهم يقبلون على ممارسة الجنس مع الرجال، كما أنه يذكر محاسن الغلمان وسمات جمالهم وحسنهم، ويورد أسماء بعض المشاهير الذين عرفوا بحبهم للغلمان أو ممارسة الجنس معهم، ومنهم على سبيل المثال العالم النحوي الشهير أبو حاتم السجستاني المتوفى 250هـ/ 862م، والذي يصفه التيفاشي بقوله: "ثبت عنه أنه كان من أفضل أهل زمانه علماً وورعاً، وأنه بلغ من ورعه وفضله أنه كان يتصدق كل يوم بدينار ويختم القرآن في كل أسبوع... وكان مولعاً بالغلمان يذهب فيهم مذهب الاستمتاع بالنظر". مع ذلك يبرز التيفاشي فضائحية نكاح الغلمان، إن عرف من يمارسه، إذ يذكر أن قاض كان يعشق أحد الفتيان، وأنه قد قابله في حجرة خاصة داخل حمام المدينة، وأثناء تلاقيهما انهدم السور الذي كان يفصل ما بين حجرة القاضي والحمام، فوقع القاضي مع الفتى في صحن الحمام وشاهدهما الناس في ذلك الوضع المحرج"واشتهرت النازلة، فلم يبق... صغير ولا كبير ولا خاص ولا عام إلا وبلغته، فكان ذلك سبب سقوط جاه القاضي، وذهاب حرمته، وحرمانه ولاية الأحكام باقي مدة حياته".
هذه الممارسة "العاديّة" لنكاح الغلمان، لا نجدها في السحاق، ففي في بداية فصل "أدب السحاق والمساحقات"، يصف الأمر بأنه مرض وعلّة جسديّة مذمومة، بسبب تغيرات في رحم المرأة تحرفه عن وظيفته وأشكال للذة التقليديّة المقترنة به.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع