في رمضان وسط كل هذا التجاذب الدولي بخصوص ما حدث و ما يحدث في غزة، لا نرى اثراً في الاعلام العربي، عدا كم هائل من المسلسلات التي نادراً ما تمت لواقعنا بصل. ارواح الشهداء أرخص من أن يوضع تذكاراً لها في زاوية هذه القنوات، كأن هذه الحرب تدور في كوكب آخر تماماً، فهل يكفي للتدليل على حالة العجز واللامبالاة التي تخيم علينا، أن تصبح أغنية ترويجية لشركة زين للاتصالات، هي ردة فعلنا الوحيدة والذليلة تجاه ما يجري من مجازر في غزة؟ وأن نتلقفها وكأنها ملحمتنا الأسطورية التي لا تقل شأناً عن الإلياذة؟ فالأغنية الدعائية لشركة زين مع قوتها تقنياً، هي الصوت النشاز الوحيد في سيمفونية الصمت العربي، بل هي الشذوذ مكتملاً، وسط هذا التقبل والنورملايزيشن للظلم والعدوان، لكن كل ذلك يصبح غير مستغرب حينما نواجه أنفسنا بحقيقة أن أكبر منظومتين للإعلام العربي غير السياسي (ظاهرياً) هما مصر في الانتاج، والدول الخليجية في ملكية قنوات البث وتمويل شركات الانتاج، كلتاهما ساهمت في دفن فكر المقاومة لدى المشاهد العربي، بل تأمرت عليه بتحطيم ادواتها وهدم مدارسها.
إن أسلوب جذب المشاهد العربي وفق صبغة أيديولوجية صارخة، بواسطة الإعلام السياسي كان قد فشل بوضوح حينما كانت قناة الجزيرة تتحيز لكل ما هو إخواني، وإن لم يكن صحيحاً، وهو ما استغله المعسكر الآخر، معسكر الثورات المضادة ليشير بإصبع اعلامه الببغائية دون ملل، بمناسبة أو بدونها، إلى مأل الحال في سورية (عاوزيننا تبقى زي سورية؟) لخلق حالة من اليأس وسط الشباب العرب، وإقناعهم أن الثورة على المستبدين من اصحاب البذات العسكرية، وإن كانوا فاسدين، سوف تذهب بنعمة "الأمن والأمان" لتجري بعد ذلك في جو من الهدوء عملية إسكات الأصوات التي تفكر بصوت عالٍ أو تجرؤ على قول لا.
أثبت القرن الحادي والعشرون أن الميديا من أقوى اسلحته واشدها فتكاً، وهي بطبيعة الحال مسيطر عليها من قبل القوى التي تهيمن على المال والنفوذ السياسي في العالم؛ أمريكا وتوابعها التي دور في فلكها، توظفها في صناعة البروباغاندا وتقوية الاستريوتايبس، وشيطنة من تشاء، تعزز بها من تشاء وتذل من تشاء، بيدها هذه الآلة الجبارة الموجهة ضد كل من هم ليسوا في صفها، لقد سبق أن قالها جورج بوش الابن من دون أن يدرك حينذاك أنه كان يتلفظ بأكثر عبارات القرن بذاءة وأشدها صفاقة "من ليس معنا فهو ضدنا"، وكما حدث مع المجاهدين الأفغان الذين كانوا هم الأبطال المؤمنين، الذين لا يخافون الموت في سبيل نيل حريتهم من الاتحاد السوفيتي كما جرى في رامبو 4.
الآن ماذا حل بهم، وكيف تغيرت الأحوال لتصبح اسم (جهاد) كافية لأن تغلق في وجهك مطارات العالم؟ إن من أهم أسباب سيطرة الاعلام على الرأي العام في بلداننا هو حالة التجهيل المتعمد، الذي تمارسه أنظمة حكمنا الاستبدادية، ومعلوم أن ذلك هو ما أنتج حالة الجهل لدى المواطن العربي والعالم ثالثي بصورة عامة، صارت اليوم عملية تجهيل الشعوب تجارة رائجة بل مربحة لهذه الأنظمة، تُنظم لها الأسواق والمزادات وتُقام لها المنابر، فهي فوق ما تدره من أرباح مالية تذهب لجيوبهم بوصفهم مالكي تلك المؤسسات الإعلامية التي تتنافس على أنتاج التفاهة، نجدها تعمل على إطالة أعمار أنظمتهم الاستبدادية، وإن كانت قد سقطت فعلياً أو على وشك السقوط. لنلقِ نظرة على ما يجري في السودان، حتى نكتشف أن النظام هناك سقط وشبع سقوطاً، وإن من يمارس السلطة حاليًا هم مجرد اشباح تم بعثهم من الموت.
أما حالة الجزائر، التي تجري فيها الانتخابات، ويتم الإعلان عن النتائج، دون أن يكون قادراً من تم إعلان فوزه بالرئاسة على الإدلاء بصوته، لأنه حرفياً ليس إلا جثة وضعت في كرسي متحرك. إن حالة التجهيل الممارس في أجهزة الإعلام العربي الرسمي وشبه الرسمي، مع عدم وجود إعلام موازٍ منحاز للشعوب وقضاياها ويعمل بنفس الفعالية والجودة، وسهولة التلقي التي توفرها التكنولوجيا الحديثة الاتصالات، وهي تقريباً الأسباب نفسها التي أدت إلى فوز ترمب، إنه الخليط غير المتجانس من السذاجة وترويج الاكاذيب والغطرسة، تنتصر ضد كل ما هو واقعي، فقد كان ترمب شخصية معروفة في عالم الاعمال وبرامج الواقع، ومنذ اللحظة الأولى عرفه كل المتابعين، ولأنه كان واضحاً، وصريحاً بشكل صادم، أصبح مباشرة الممثل الأول للحلم الأميركي (المال والشهرة وعدم الاكتراث للأخر). صار ترمب بين يوم وليلة بطلاً في عينَي كل أميركي بسيط ليست لديه دراية بما يجري في دهاليز السياسة، سوى ما تلقنه إياه شاشات برامج الواقع.
إن حكامنا الخائفين على كراسيهم كان لديهم فقط المال، دون أن تكون لديهم الخبرة في صناعة الإعلام، وحيله التي تخدع المشاهد وتطيل من أعمار السياسيين الفاسدين، وتلون الحقائق بمستوى عالمي قابل للتصديق بعكس ما تعوده الجمهور العربي من الفوز بنسبة 99٪ . الآن ومع تقارب وجهات النظر واللعب على المكشوف بين الحكام العرب والصهاينة وترمب، فقد توحد التوجة الاعلامي بحيث لا تستطيع أنت اليوم أن تميَز بين خطابات الرؤساء العرب، وبين ما ينسب لقادة الحركة الصهيونية ورموزها السياسية،رتجدهم يعملون بجد لبسط أفكارهم وسط الشعوب التي ليس لها مجال سوى تقبل كل ما يملى عليهم من محتوى مضلل، عبر مسلسلات باهظة الكلفة، وذات محتوى مناقض لأحلامها وتطلعاتها، وحملات إعلامية تروج لأسماء سهلة الحفظ، وكل ذلك يجد صداه في مواقع التواصل الاجتماعي.
اتحاد الصهاينة والمتصهينين العرب، يأتي في لحظة حرجة من تاريخ الشرق الأوسط، ليكمل رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط جغرافياً بل في كل المجالات، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وفكرياً، وبكلمات أخرى، نحن اليوم أمام حالة لفرض شرق اوسط جديد كلياً، ليس هو بأي حال ما تمنته شعوب المنطقة، ولا هو ما حلمت به أجيالها، ولا هو ما هتفت باسمه شوارع العواصم العربية وهي تشيع الاستبداد في ربيعها المدفون، شرق أوسط خاضع، مثله مثل حكامه ومحكوميه، وشعوبه وأديانه وملله. على أي حال لا داعي إلى التكلم في السياسة، الفلسطنيون هم من باعوا أرضهم، المهم أن لا نصبح مثل سوريا. الأمن والأمان نعمة. مرحباً بكم في الشرق الأوسط الجديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...