شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الحروب مؤلفة من قتلى فقط؛ من موتى تستمرّ أظافرهم بالنموّ في الصور

الحروب مؤلفة من قتلى فقط؛ من موتى تستمرّ أظافرهم بالنموّ في الصور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 18 أبريل 201806:15 م
"استيقظ يا عزيزي، حان موعد ذهابك إلى العمل" جملة مقنوصة من سوريا ما قبل التيه، ما قبل الدخول الفجائي في ملاعبة العدم، حلم السوريون أن يعيدوا سماعها مجددا بآذان الكسل، ليس لنقص الأعمال بل لخفوت النوم أصلا، تمنوا أن يكون الأمر برمتّه كابوساً مزعجاً لا غير، بعد عشاء دسم مثلاً أو بعد فيلم أكشن أميركي المَبْدَى والمَحْضَر. إلا أنه كابوس حقيقي طويل فحسب، كابوس هيتشكوكي العناصر والمواقع والسيناريو، يشبه تلك المشاهد التي تستحضرها أفلام الرعب في عيد الهالوين: أقنعة ملونة وجماجم مفلوقة وعظام مرسومة بالأحمر المرعب على الأسود الأشد إرعاباً. لكن الفرق هنا أن لا أحد خيّر السوريين بين الخدعة أو الحلوى، (نستطيع التساؤل هنا عما إذا كانت سوريا قبل الحرب خدعة أم حلوى) بين الموت على يد كهنة الموت أو من اليأس اليائس، على يد فصائل مسلحة أو على خشب قوارب متهالكة في بحر هائج. خدعة مستمرّة منذ سبع سنوات تظلّل وقت السوري وتكتب مصيره، خدعة الموت سمّيت حلوى الثورة، ثم سمّيت اسم آخر، وهي في الحالين محمولة على إغماء وعمى، على انعدام التسميات وتقشّر الصفات.
ماذا نصنع بجيش اليتامى الذي خلفته سنوات الدم، هل نصنع منه فرقة عسكرية ونسميها الفرقة الناجية؟
ماذا سنقول للطفل الذي خرج الى المدرسة فلم يجدها فعاد إلى بيته فلم يجده أيضاً؟

ما الاسم الأول للموت، ما هي كنيته؟

لم يعد الناس يكثرون من التموين الملازم لاحتمالات العوز، اعتادوا النقص ربما، أو أنشأوا آلية أخرى لمواجهة الفاقة، ضعف الكمية من الخبز لا أكثر، من الأرز، من الماء، إنما نفس المقدار من التماسك ومثلها من اللامبالاة، أقاموا منظومة موازية لمنظومة الحكومة في استثمار الاشاعات واستهلاكها، في فهم الأخبار وتبويبها: هذا خبر نصف كاذب يركض على الكورنيش الغربي وهذا خبر مبالغ به ينفع في تسمين الدواب، لم يعد إعلام الحكومة يتحكّم في دمع السوريين أو في مكيال خوفهم، مثلما كان الحال منذ سبع سنين، لجارتي مراسلون حربيون في كل بقعة ساخنة. لا تصدّق الحكومة وأيضاً لا تكذّبها (علنا على الأقل) إنما تتفاعل مع منطوقاتها بالطريقة نفسها التي تتفاعل بها مع ثرثرات كنّتها، تستمع بسأم للناطق الرسمي وتهمهم: مثل باذنجان كنّتي، يحتاج بيانك ملحا أكثر وبهارا أقلّ. عم ستحكي الجدّات في قادم الأيام للأحفاد وافري الحظ الذين سيبقون أحياء؟ هل ستكون قصص الطفولة القديمة كافية لتمنح الطفل نوما بلا كوابيس؟ كيف ستروى تلك القصص المساعدة على النوم، أصلا هل بقي قصة بنهاية سعيدة في هذا الوطن المنهك والمنتهك؟ هل نستبدل الذئب القاسي بالجار التركي والساحرة الشريرة بأميركا والحطاب الطيب بصديقنا بوتين، أين سنضع الحاجز العسكري في مندرجات حكائية كهذه؟ من سيرتدي البذلة المرقّطة، ليلى أم الحطّاب؟ INSIDE_Syria تضحك روزماري من قصتي ليلى والذئب وسندريلا والأمير، إذ يبدو لها الذئب أبلها لا يستحق الهالة التي أحيطت به وليلى خرقاء بثوب أحمر، سندريلا ليست أكثر من فتاة قليلة الطموح وعديمة الموهبة والأمير مجرد أحمق يحمل حذاء بللوريا ويجوب البلاد كسكّير. ما القصة التي ستقنعها بعد أن دخلت إلى مفردات قاموسها اليومي كلمات مثل: ذبح وإبادة وطائفة ومقبرة جماعية وحواجز وكتائب، تحرير وتهجير... أي مخيلة دامية أنتجتها حرب الوحوش هذه، وكيف سيعود الأطفال إلى أغنية تتحدث عن الأرنب اللاهي والسلحفاة الودودة في حين صاروا يميزون نوع الرصاصات التي تقتل أو تلك التي تترك أثرا أبديا فقط، صاروا يعرفون أنواع الأسلحة من رشقاتها على جيد الهواء وأصناف الطائرات من زعيقها المدوّي في سماء الرب.  أكثر سؤال يخطر لي، الآن في هذا المقتلة المستمرّة منذ أكثر من سبع سنوات هو: مما هي مؤلفة هذه الحرب، أي حرب؟ ليس السؤال ساذجاً للدرجة التي يوحي بها وليس الأمر مشروحات نظرية: لا مؤامرة عالمية ولا قضية حرية، وبالتأكيد ليست صمود وتصدي. لا هي ثورة كاملة فنقف معها ولا هي طغيان نظام متعنّت فحسب فنلعنه وكفى، لا ممرات آمنة للغاز القطري أو الروسي ولا قضية كرامة جغرافية استبيحت من قبل ولم يحرك أحد لأجلها موضع بندقية. ما هي عناصر أي حرب، بدون تلك الكلمة اللاحقة، أهلية أم أقليمية أم كونية، هذه توصيفات تناسب ذوي التبريرات المقنّعة لدوام العسف، سواء أكان مصيباً من يسوق التسمية أم كان مصيبة. ما يهم هو أن لا بلاد بقيت ليمارس عليها المنتصر سيادة معفية من المساءلة، لا بشر، لا أرواح، نستطيع أن نقول للمبرّرين: حسنا، لقد كنتم محقين، إنها مؤامرة كونية، لكن لم يتبق أحد ممن كنتم تدّعون الدفاع عنه على قيد الحياة . ماذا سنحكي للفتاة التي ولدت على حاجز عسكري، لحظة هروب الخارجين من مناطق الحصار، ماذا سيُسجّل على بطاقتها الشخصية عندما تحصل على واحدة، مكان الولادة: معبر النازحين، تاريخ الولادة: لحظة سقوط اليد باليد الأخرى؟ ماذا سنقول للطفل الذي خرج الى المدرسة فلم يجدها فعاد إلى بيته فلم يجده أيضاً؟ ماذا نصنع بجيش اليتامى الذي خلفته سنوات الدم، هل نصنع منه فرقة عسكرية ونسميها الفرقة الناجية؟ ماذا سنقول للأب الذي انتظر ابنه سبع سنين في ظن الأسير وباغته الخبر قبيل توقعه لقاءه؟ لقد مات... هكذا ببساطة!! مات منذ ست سنوات، لقد انتظرتَ جثة يا أبي، خاطبتَ جثة، أرسلتَ رسائل هاتفية لجثة، والمؤلم أن الجثة كانت تستقبل اتصالاته وترضى بالنقود القليلة التي كان يرسلها. الحروب مؤلفة من قتلى فقط، من موتى (تستمرّ أظافرهم بالنموّ في الصور) من أموات أحياء في ذاكرة القرى وأحياء أموات على متاريس الطغاة، من بيوت مدمرة ومناطق ممنوعة، من أحلام يابسة وأعمار مجفّفة كباقات البامياء في القرى. الحروب هي الأرحام التي لن تنجب بعد الآن، الأراضي التي لن تنبت زرعا، البحيرات التي لن تروي والطحين الذي لن يعجن، الحروب هي الخطر الذي أشعر به في هذه اللحظة وأنا أفكر بالكثير وأكتب القليل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard