شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
بعد أكثر من 20 سنة على انقطاع الرسائل، هل ستستطيع عهد الحلبية ويوتا البرلينية التواصل مجدداً؟

بعد أكثر من 20 سنة على انقطاع الرسائل، هل ستستطيع عهد الحلبية ويوتا البرلينية التواصل مجدداً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 14 أبريل 201811:41 ص
كنت أغطّ في نوم عميق عندما رنّ هاتفي، استجمعت أفكاري، وكالعادة أجبت بكلمة هالو حتى أعرف هل المتصل يتحدث اللغة العربية أم لا. لم تعد الهواتف في الفترة الأخيرة تلعب دوراً كبيراً في المكالمات. أظن أني نسيت التحدث عبر الهاتف، أحياناً أشعر بعدم الارتياح. "نحن من قناة دويتشلاند راديو، لقد وردنا بريد إلكتروني من امرأة ألمانية عجوز تعيش في مدينة لايبزيغ، قالت إنها تريد مقابلتك بعد سماعها التقرير الأخير الذي أعددته عن حلب. لديها صديقة حلبيّة هناك وتريد منك مساعدتها في إيجادها. هل يمكنكِ ذلك؟" لم أكن أعي ما أقول وغير قادرة على استيعاب كل هذا الكم من المعلومات الغريبة في آن واحد. أنهيت المكالمة وفتحت صندوق الرسائل البريدية أو كما أسميه "الصندوق الأسود"، لأنني كلما حصلت على إشعار برسالة بريدية جديدة يصيبني دوار البحر. قال لي الصحفي المتصل إنه سيرسل كل المعلومات إلى بريدي الإلكتروني بعد إدراكه لغيابي عن الوعي أثناء المكالمة. كانت أول كلمة قرأتها في الرسالة هي اسم سيف الدولة! حقاً! ما هذه المصادفة؟ إنه الشارع الذي قضيت فيه طفولتي وشبابي، وهناك تعيش المرأة الحلبية المفقودة. لقد كانت مفاجأة جميلة بالنسبة لي، إلا أنها لم تكن خبراً سعيداً، فهذا الشارع بالذات كان النقطة الأولى لحرب الشوارع بين الجيش الحر وجيش النظام. لقد كان الوضع كارثياً هناك بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لا أزال أذكر تلك اللحظات الأخيرة في سيارة الأجرة والقذائف تتهاوى من خلفنا وكأنني أمام فيلم أكشن، ولكنه لم يكن فيلماً بل حقيقة مفجعة. كتبت لي يوتا، العجوز الألمانية: "عزيزتي هبة، لقد سمعتك تتحدثين مع صديقتك من حلب على الراديو الألماني وفكرت بأنك ربما تستطيعين مساعدتي في إيجاد صديقتي عهد من حلب. كنا نتبادل الرسائل من عام 1966 حتى عام 1984 وبعد ذلك لم أسمع أيّ أخبار عنها. يمكنكِ المجيء لزيارتي وسأضع بين يديكِ كل المعلومات اللازمة عنها، والتي قد توصلنا إليها في القريب العاجل. لا أخفي سراً أني حاولت كثيراً العثور على أي خيط يوصلني إليها ولكن عبثاً، باءت محاولاتي بالفشل". أغلقتُ هاتفي وأنا أفكر كيف يمكن لامرأة ألمانية أن تتواصل مع أخرى تعيش في حلب. وكيف وجدت كل منهما الأخرى وتواصلتا أكثر من 15 عاماً عن طريق الرسائل. وكيف يمكن لذلك أن يحدث. لم يكن في حلب صندوق بريدي حسب معلوماتي. فقد كان ساعي البريد يطرق الباب ويحمل لنا الرسائل في كل مرة، أو يتصل بنا البريد ويطلب منا القدوم لاستلامها. قد يضيع الكثير من الرسائل بسبب الإهمال أو بسبب خطأ صغير في العنوان، وأحياناً قد يلعب مزاج ساعي البريد دوراً مهماً في سرعة وصول الرسالة أو عدمها. الكثير من الأسئلة كانت تعبث في رأسي ذاك اليوم. لم أكن أدري هل هذه القصة حقيقية أم محض خيال عجوز وحيدة. ذهبنا إلى يوتا التي تسكن في مدينة لايبزيغ. كانت المرة الأولى لي في هذه المدينة. كل شيء بدا مثالياً، الشمس والقهوة والقطار السريع، وبالطبع القصة التي تدور بين عجوز برلينية وأخرى حلبية مجهولة المصير. وصلنا إلى المدينة، ركبنا المترو القديم، وعند كل محطة كان هناك صوت غريب ينبعث منه كما في الحكايات القديمة. لقد كان جزءاً لا يتجزأ من هذا المشهد الخرافي. تسكن يوتا في الطابق الثالث لبناء يبدو لي قديماً، جمعت خصلات شعرها البيضاء بطوق ملون وارتدت قميصاً مزركشاً. عرفت فيما بعد أن القميص حلبيّ يبلغ عمره أكثر من 30 سنة كانت قد أرسلته لها صديقتها عهد. على الطاولة أعدّت بعض قطع الخضار وشطائر الجبن الطازجة. كان البيت الصغير بارداً جداً، وكنت أرى كل شيء بالأسود والابيض. صورة كبيرة على الحائط الأبيض الفارغ هي أول مشهد قد يصيب قلبك عند مدخل المطبخ، كُتب عليها "أين هي؟". [full_width]Letter-from-Aleppo-to-Berlin[/full_width] [br/]المقصودة هنا عهد. في أسفل الصورة فتاة جميلة هي عهد الحلبية بالقميص المزركش عينه الذي ترتديه يوتا أمامي الآن. هل أنا في العالم الحقيقي أم أرى فيلماً لسعاد حسني؟ لربما شادية! بدأ عقلي يستعد لاستيعاب فكرة وجود عهد الحقيقية. كل شيء واقعي إذن. - هل تعلمين يا يوتا أنني أيضاً من سكان حيّ سيف الدولة؟ لقد كان حيّاً جميلاً جداً قبل كل ما حصل. - لا أصدق! ما هذه المصادفة؟ كيف يمكن ذلك. تعالي كي أريك بعض الصور من هناك ورسائل عهد. [full_width]Letter-from-Aleppo-to-Berlin2[/full_width] [br/]رتّبت يوتا الرسائل بحسب السنوات، الواحدة تلو الأخرى، وقرب كل واحدة منها ورقة صغيرة كتبت عليها المعلومات المهمة التي قد تساعدنا في البحث عن عهد. الكثير من الصور لتلك الفتاة الجميلة في المدرسة وفي الحفلات، ومع الأصدقاء، وفي الحديقة، قرب الشرفة، في بيروت وحلب والجزائر. حدثتني يوتا عن كل صورة كأمّ فخورة بابنتها، تدمع عيناها حيناً وتضحك حيناً آخر، كان واضحاً لي أنها قرأت تلك الرسائل آلاف المرات، وحدقت بتلك الصور سنوات عديدة وهي تبحث عن لغز اختفاء صديقتها. على طرف كل رسالة، كُتبت المعلومات باللغة العربية (سوريا - حلب - سيف الدولة الأنصاري)، ورأيت الكثير من الطوابع وصوراً من قلعة حلب وبعض المعالم الأثرية هناك. كان صوت يوتا يأتيني من بعيد وكان قلبي في عالم آخر. عاد لهناك، لتلك الشوارع، لتلك المدينة التي شهدت ميلادي وموتي. كانت الرسائل المتبادلة بينهما باللغة الانكليزية. فحسب يوتا، تابعت عهد دراستها في الأدب الانكليزي على الرغم من حلمها بدراسة الهندسة المعمارية، والرسومات التي كانت ترسلها إلى يوتا في الكثير من الرسائل كانت تشهد على ذلك. بعد عدّة محاولات لوضع مسجل صوتي حتى يمكننا إعداد التقرير لقناة الراديو حيث نعمل، وافقت يوتا أخيراً على الحديث. ولكنها كانت تدعنا نوقف عمل المسجل في كل مرة تنسى معلومة عن عهد وتعيد لنا سرد القصة منذ البداية. لقد احتاج الأمر الكثير من الصبر. عاشت يوتا في برلين الشرقية التي أضحت بعد الحرب العالمية الثانية تحت حكم الاتحاد السوفياتي. وجب على الجميع في ذاك الوقت دراسة اللغة الروسية وكانت يوتا في عمر الـ15 عاماً. أثناء سيرها قرب محل للكتب وجدت بعض البطاقات لهواة المراسلة: "عهد، 15 عاماً من حلب".

قصة مثل الخيال عن عجوز برلينية تبحث عن صديقتها بالمراسلة من حلب...

كان العنوان كافياً ليثير فضول يوتا، تلك الفتاة البرلينية التي لا تسطيع الخروج من نطاق برلين الشرقية. تقول: "كنتُ أريد أن أستكشف عالماً آخر، أخذتُ العنوان وبدأت بكتابة الرسالة الأولى". "مرحبا، أنا أدعى يوتا. أسكن في برلين وعمري 15 عاماً، أذهب إلى المدرسة وأتعلّم اللغة الروسية، كما أحب اللغة الانكليزية كثيراً، وأحب الموسيقى. هل تعرفين فرقة البيتلز؟ إنها فرقتي المفضلة". جاء الرد بعد ثلاثة أشهر: "مرحبا يوتا، أنا سعيدة جداً برسالتك. أنا عهد أسكن في حلب وأذهب إلى مدرسة أمريكية هنا. نحن نتعلم اللغة الانكليزية إلى جانب العربية، أكره مادة الرياضيات وأحب البيتلز ايضاً". هكذا بدأت صداقة يوتا وعهد عام 1966، عن طريق رسائل بريدية كانت تحمل الورق أحياناً والكثير من الأحلام أحياناً أخرى. في ذاك الوقت، وقبل سقوط جدار برلين، حاولت عهد زيارة صديقتها، ولكن الحصول على فيزا إلى برلين الشرقية بدا صعباً جداً. قالت يوتا "إلى الآن لا أستطيع أن أحتمل فكرة وجود عهد في برلين الغربية، وأنها لم تستطع دخول برلين الشرقية لرؤيتي. لماذا لم تحصل على الفيزا؟". جاء عام 1984، ومعه آخر رسالة من عهد. قالت فيها إنها ستسافر إلى الجزائر، ومنذ ذلك الحين كانت يوتا ترسل الرسائل ولم يكن أحد يجيبها. حمل سقوط جدار برلين في الخامس من فبراير عام 1889 الكثير من الأحلام ليوتا، التي فكرت بأن الوقت الذي تستطيع فيه عهد زيارتها قد حان، فأرسلت لها رسالة تدعوها فيها لزيارتها، ولكن ما من مجيب. رغم كل التفاصيل والمعلومات، لم يكن في بالي سوى أمر واحد. ماذا لو كانت عهد إحدى ضحايا القنابل والتفجيرات في حلب؟ ماذا لو قضت نحبها في ذلك الشارع الجميل؟ ماذا سيحصل ليوتا التي عاشت كل هذه السنين على أمل رد كتابي جديد؟ اليوم، في سنة 2018، أصبح ليوتا أمل بعد سماعها على الإذاعة الألمانية، صوت فتاة من حلب تتحدث إلى صديقتها هناك عبر تطبيق واتساب، في برنامج حمل عنوان "رسائل من حلب". كانت يوتا قد تخيلت نفسها تتحدث إلى عهد بعد كل هذه السنين عن طريق التطبيق نفسه، بكل هذه البساطة، دون الانتظار شهراً أو شهرين أو ربما 4 للرد. لن تنتظر سوى بضع ثوان حتى تحصل على رسالتها، فتخفف عنها وحدتها في هذا الفضاء البارد. بدأتُ بجمع المعلومات من يوتا حتى أستطيع البحث عن عهد. شعرت وكأنني جزء من برنامج خبرني يا طير، وهو برنامج كان يُعرض على الفضائية السورية، يرسل إليه الكثير من الأشخاص أسماء وصوراً لذويهم أو أصدقائهم من أجل البحث عنهم، عندما لم يكن لشبكات الانترنت وجود بعد. كنا ننتظر النهاية، التي كانت دائماً سعيدة، إذ تنتهي بعناق وقُبل وبكاء والكثير من الضحكات والشكر الكبير لفريق البرنامج. ماذا لو كانت نهاية القصة غير سعيدة، كم ستلعنني يوتا وكم سيكرهني الجمهور وكم سأكره نفسي. أحياناً يفضّل الكثير منا البقاء على أمل بدلاً من نهاية لا تنبئ بشيء سعيد. بدأت البحث على شبكات التواصل الاجتماعي من خلال المعلومات المتاحة، وجدت صورة مزخرفة تبدو أنها قد التقطت من عمل يدوي جميل وملون. عهد، من حلب، تعيش في بيروت ودرست اللغة الانكليزية. قالت يوتا "نعم، قالت لي مرة إنها تملك بيتاً هناك في بيروت، أظن أنها هي، إنها عهد". هل يمكن أن تكون هي؟ لا توجد أي صورة تدل على أنها هي. كانت يوتا متحمسة لدرجة البكاء. أرسلت لعهد صورة مؤلفة من منضدة مليئة بالرسائل وصورة لها مع قميص مزركش هو نفسه الذي كانت يوتا ترتديه اليوم. "عزيزتي عهد، أنا إسمي هبة من حلب، ولكني الآن قرب يوتا صديقتك في المراسلة منذ عام 1966، إذا كنت قد تعرّفت على الصورة أرجو الرد بأسرع وقت". طلبت يوتا مني البقاء في منزلها إلى حين تلقي جواب من عهد. كنت أنظر إلى هاتفي كل دقيقة على أمل وجود رسالة جديدة، ولكن عبثاً. عدنا إلى برلين. مر أسبوع ولا خبر من عهد. آخر بوست على فيسبوك كتبته قبل سنتين. كنت قد بدأت أفقد الأمل، ربما علي تجربة حيلة أخرى. كنت مشوشة جداً وآلاف الأفكار تسمم رأسي. هل يمكن أن تكون النهاية مأسوية؟ وكعادتي كل يوم اثنين، يجب أن أبدأ بكوب كبير من القهوة. كنت أعد قهوتي دون انتظار، دون تفكير، دون حتى أي حلم أو هدف. وإذ برسالة تأتي من عهد. فتحت عينيّ وأغمضتهما، أخذت رشفة من القهوة، هل يمكن أن يكون ذلك حلماً؟ "شكراً هبة على الرسالة اللطيفة. يا لهذه المفاجأة الجميلة بعد كل تلك السنوات، نعم أنا هي عهد التي تبحثون عنها، أبلّغي يوتا تحياتي". يتبع...

يمكن قراءة تتمة القصة على هذا الرابط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image