في الساعة السادسة من مساء 11 فبراير 2011، خرج اللواء عمر سليمان نائب الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ليعلن عبر التلفزيون المصري "تنحّي" الرئيس عن الحكم وتفويض القوات المسلحة بإدارة البلاد، وهو ما عنى وقتها نجاح الثورة.
ولكن هذا البيان الذي لم يستغرق دقيقتين كان كافياً لإرباك كافة المؤسسات الصحافية التي راحت تبحث عن "مانشيتات" لأعداد الصحف "التاريخية".
الأهرام... صاحبة الحظ الأوفر
كانت صحيفة الأهرام صاحبة الحظ الأوفر، لا لشيء سوى لأن رئيس تحريرها عرف الخبر قبل إذاعته في التلفزيون المصري بوقت كافٍ، ما جعل فرصة الاختيار أمامه أكبر من غيره.
يتحدث أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام اليومية، أقدم الصحف المصرية، عن كواليس ذلك اليوم، كاشفاً في البداية أنه علم بفحوى الخطاب قبل إذاعته بثلاث ساعات على الأقل ما أدخل المؤسسة في ورشة تفكير: ماذا سنقول للناس غداً.
ويروي سرايا لرصيف22 أنه عرف الخبر من أحد مصادره داخل التلفزيون المصري، فكان أول ما فعله إلغاء كل العناوين المقترحة لمانشيت عدد 12 فبراير، ثم أجرى اتصالاً هاتفياً بأحد مصادره داخل مؤسسة الرئاسة فأكد له الخبر ليعقد بعدها مباشرة اجتماعاً لمجلس تحرير الجريدة لاختيار العنوان الأمثل.
"كانت الخيارات محدودة. أولاً واخيراً، نحن جريدة قومية ولنا خطنا وسياستنا التحريرية، وحتى في تلك اللحظات الاستثنائية كان يجب ألا نخرج عن قيم الأهرام. الكثيرون بدأوا في اقتراح النهج الذي سنسير عليه أولاً قبل العنوان. ودار نقاش: "هل نتناول الحدث بشكل خبري يشير إليه فقط أم نختار عنواناً يعبّر عن وجهة نظرنا نحن، وهذا سيظهر في الكلمات بالطبع. ما بين ‘خلع مبارك’ أو ‘تنحّيه’، وصلنا إلى اختيار العنوان الخبري"، يقول سرايا.
ويضيف: "كان المقرر عنوان ‘تنحي مبارك عن الحكم’ لكن البعض أكد أن هذا العنوان قد يكون سبباً للهجوم على الأهرام من قبل الثوار. واقترح أحد الزملاء عنوان ‘الشعب أسقط النظام’ دون الإشارة إلى مبارك وكان هذا أنسب الحلول، إذ أن البعض شطح بعناوينه الهجومية إلى حد سب مبارك، وقد أراد البعض أن يجعل العنوان ‘القوات المسلحة تتولى الحكم’".
لكن في النهاية، خرجت الجريدة بصورة كبيرة لميدان التحرير وفوقها "الشعب أسقط النظام"، وفي أسفل الصفحة الأولى عنوان يشير إلى القوات المسلحة التي تولت حكم البلاد. "ورغم هذا الإرباك الذي استمر أكثر من ساعتين كانت النتيجة عنواناً يليق بالأهرام"، بحسب سرايا.
أخبار اليوم... الأهرام تؤكد الخبر
تغيير المانشيت في آخر لحظة كان الحال مع جريدة أخبار اليوم القومية. يقول ممتاز القط، رئيس تحرير الجريدة في ذاك الوقت، إنه عرف الخبر قبل خطاب التنحي بأكثر من ساعة، لكنه حاول التأكد من خلال أكثر من مصدر وفشل فاضطر إلى الاتصال بزميله أسامة سرايا ليؤكد له الخبر.
يتذكر القط ذاك اليوم، ويروي لرصيف22 أنه "طوال أيام الثورة كانت البيانات تخرج من مؤسسة الرئاسة، وباعتبارنا جريدة قومية كنا نلتزم بها حرفياً. لكن خطاب التنحي جاء مفاجئاً، وزاد من عوامل القلق أن أخبار اليوم جريدة أسبوعية تصدر كل سبت ما يعني أن التحضير لها يستغرق وقتاً أطول وحين عرفنا خبر التنحي كان يتبقى على طبع الجريدة أقل من ساعة ما جعلنا نؤخر وقت الطباعة، واجتمع مجلس التحرير لاختيار عنوان مناسب".
ويضيف: "لدينا واجب، علينا أن نخرج بعناوين متزنة. لذلك دعيت مجلس التحرير وكان تركيزنا كله على بيان القوات المسلحة واخترنا أن يكون المانشيت من هذا البيان وتم الاستقرار في النهاية على ‘القوات المسلحة: أنا الشعب’. ولكن قبل نهاية الاجتماع كانت الأهرام قد طبعت طبعتها الأولى وحين قرأت مانشيتها ‘الشعب أسقط النظام’، أعدنا النظر في المانشيت واقترحت أن نضيف إلى العنوان الأساسي ‘ورحل مبارك’، وهو ما كان في النهاية عنوان أخبار اليوم".
"الأحداث الكبيرة تلخصها دوماً عناوين صغيرة لكنها يجب أن تكون تاريخية"... كيف وضعت أبرز الصحف المصرية مانشيتات "تنحّي" مبارك؟
بيان "تنحي" مبارك لم يستغرق دقيقتين لكنه كان كافياً لإرباك كافة الصحف التي راحت تبحث عن "مانشيتات" لأعداد اليوم التالي... رحلة في كواليس أبرز الصحف المصرية
جريدة الدستور... عنوان بلا رئيس تحرير
في جريدة الدستور الخاصة اختلف الأمر. لم يكن هناك رئيس تحرير للجريدة وقت تنحي مبارك، فقبل ذلك التاريخ بشهرين كان رئيس مجلس إدارة الجريدة رضا إدوارد قد أجرى حركة تغييرات شملت استبعاد رئيس التحرير الأسبق للجريدة إبراهيم عيسى.
وطوال أيام ثورة يناير كان مَن يضع المانشيت هو مجلس التحرير كما يوضح الكاتب الصحافي محمد سعيد وهبة، رئيس قسم الأخبار في ذلك الوقت ورئيس تحرير الجريدة لاحقاً.
لم يكن هذا الاختلاف الوحيد بالنسبة لجريدة الدستور عن غيرها. فعلى عكس السائد، كان مَن وضع مانشيت سقوط الرئيس هو الشعب وليس الصحافيين.
بمجرد أن جلسنا سمعنا صوت أحد الرجال الكبار وهو يصيح ‘أخيراً تنحى’ في أحد شوارع الدقي الرئيسية، وبعدها انطلقت الزغاريد من البيوت. فلم نملك سوى الابتسام الذي يعني أن العنوان سيكون ‘وأخيراً تنحى’... عن مانشيت جريدة الدستور يوم تنحي مبارك
يتذكر وهبة يوم 11 فبراير، لافتاً إلى إنه علم بتنحي الرئيس الأسبق في صباح ذلك اليوم، حين كان في التلفزيون المصري الذي يعمل فيه بجانب الصحيفة، وشهدت الكواليس إعداد خطاب التنحي الذي تم تسجيله في غرفة مجهزة للبيانات الرئاسية في ماسبيرو ولكن لم يُسمح لأحد بالسؤال عن فحوى هذا الخطاب، إلا أن أحد الضباط المسؤولين عن التأمين أخبره أنه خطاب التنحي، وبعدها أكد له الأمر أحد زملائه العاملين في النشرة الإخبارية.
من التلفزيون إلى مقر جريدة الدستور، لم يهدأ وهبة. أبلغ رئيس مجلس إدارة الدستور بالأمر وتقرر تأجيل الطبع إلى حين سماع الخطاب. وبمجرد أن انتهى، دُعي مجلس التحرير إلى اجتماع لاختيار العنوان.
يقول لرصيف22: "بمجرد أن جلسنا سمعنا صوت أحد الرجال الكبار وهو يصيح ‘أخيراً تنحى’ في أحد شوارع الدقي الرئيسية، وبعدها انطلقت الزغاريد من البيوت. أما نحن فلم نملك سوى الابتسام الذي يعني أن العنوان سيكون: ‘وأخيراً تنحى’ وهو ما حدث في النهاية مع صورة للمخلوع".
المصري اليوم... كان "الميدان ينتظر"
في جريدة المصري اليوم التي كانت أوسع الصحف اليومية انتشاراً في ذاك الوقت، اختلف الأمر كثيراً.
يقول مجدي الجلاد رئيس تحريرها وقت الثورة لرصيف22 "إن ذاك اليوم حمل طبعتان، الأولى بعنوان ‘الميدان ينتظر’. ولكن وبمجرد إذاعة البيان تقرر طباعة طبعة الثانية، وكان المسؤول عن وضع عنوان تلك الطبعة ثلاثة أشخاص: أنا وسليمان جودة ومحمد أمين، وهما كاتبا أعمدة يومية في الجريدة".
يضيف الجلاد أن الانحياز للثورة كان واضحاً في المصري اليوم، لكن الصعوبة في ذلك اليوم كانت تتمثل في كيف تخرج بعنوان يميّزك عن الآخرين. تلك لحظة لم أعشها من قبل بل وتذكرت وقتها عظمة الراحل محمد حسنين هيكل حين كان قادراً على وضع عنوان تاريخي لأكبر الأحداث السياسية، أكانت هزيمة يونيو أو انتصار أكتوبر أو رحيل جمال عبد الناصر. الأمر صعب والخوف أن يسبقك أحد كان هو المسيطر".
يتابع: "أول الاقتراحات جاءت من سليمان جودة بعنوان ‘الشعب ينتصر’. وجاء عنوان مقترح من أمين ‘سقوط النظام’، فما كان مني إلا التوفيق بينهما بعنوان ‘الشعب أراد وأسقط النظام’، وأعلى الترويسة صور لأبرز شهداء الثورة مصحوبة بكلمات 'وإن مت يا أمي متبكيش... أموت علشان بلدي تعيش’ وهي جزء من أغنية ‘فدائي’ لعبد الحليم حافظ، وبجوار ذلك عناوين أخرى تتعلق بمصير مبارك"، مضيفاً أن ذلك العنوان كان الأفضل من وجهة نظرنا لأنه يحيي الشعب فقط "بطل المعركة الحقيقية في الميدان".
الشروق... حتمية وضع عنوان تاريخي
لم يختلف كثيراً ما قاله رئيس تحرير الشروق عمرو خفاجه عمّا قاله الجلاد، حول حتمية وضع عنوان تاريخي، وإن كان خفاجة لم يضطر إلى إصدار طبعة ثانية من جريدته، إذ عرف بالصدفة أن هناك بياناً ستتم إذاعته وكان مصدر الخبر الأهرام.
يقول خفاجة لرصيف22 إنه كان في مكتبه يجهز للعدد الجديد المفترض صدوره في 12 فبراير 2011 وفوجئ باتصال من أحد زملائه في الأهرام يحدثه فيه عن بيان تنحي مبارك الذي سيصدر. وحين تشكك خفاجة، أكد له زميله أن الجريدة انقلبت بسبب هذا الأمر وهناك تغييرات في الصفحة الأولى، ما دفع رئيس تحرير الشروق إلى التأني في إخراج صفحته حتى موعد إذاعة البيان.
ويضيف أنه بمجرد إذاعة البيان كانت هناك عدة عناوين جاهزة في عقله منها "سقط مبارك" أو "انتصار شعب"، لكنه اختار في النهاية "وانتصر الشعب" في إيحاء بختام قصة الثورة أو كما وصفها "السيمفونية الشعبية خلال الـ18 يوماً".
الوفد... الشعب والجيش
في جريدة الوفد، أكبر الصحف الحزبية المعارضة انتشاراً في ذلك الوقت، اقتُرحت عناوين "الشعب يحتفل بسقوط مبارك"، و"انتصرت إرادة الأمة... وتحية عسكرية لأرواح الشهداء"، وهو العنوان الذي شهد مشاجرات في صالة تحرير الجريدة كما روى لرصيف22 رئيس مجلس تحرير الجريدة في ذاك الوقت سيد عبد العاطي.
ويضيف عبد العاطي: "في ذاك اليوم لم يكن هناك جديد حتى الخامسة مساءً فانتهينا من الطبعة الأولى التي خرجت بعنوان ‘مبارك يماطل’، لكن كل شيء تغير بمجرد أن تمت إذاعة بيان التنحي، وقررت إصدار طبعة ثانية تحمل الخبر الأهم، لافتاً إلى أن الجريدة تتبعت موقف حزب الوفد، وبالتالي فإن تأييدنا للثورة كان من البداية ولم نكن نفكر إلا في عنوان يبرز فرحة المصريين بإزاحة مبارك، بجانب كلمات صغيرة فالأحداث الكبيرة تلخصها دوماً عناوين صغيرة لكنها يجب أن تكون تاريخية".
بهذه القناعات دخل عبد العاطي صالة التحرير وقال: "مَن لديه عنوان لسقوط مبارك؟". وعلى عكس العادة، كان النداء للجميع، محررين مبتدئين أو قيادات في الجريدة، وجاءت الإجابات كلها حول الشعب المصري وصموده، "ورأيت مزج ما يقولونه بشعار حزب الوفد ‘الأمة فوق الحكومة’ واخترت أن يكون العنوان ‘انتصرت إرادة الأمة’، مع وضع عنوان استهلالي عن الشعب الذي يحتفل بسقوط مبارك".
لم تسر الأمور بهدوء. يضيف رئيس مجلس تحرير الوفد أنه بمجرد إبلاغ المسؤولين عن إخراج الصفحة الأولى بمانشيت الجريدة، جاءه عبد النبي عبد الباري، سكرتير عام الجريدة، ليرفض هذا العنوان. "في الحقيقة كان يخشى موقف الأجهزة الأمنية أو مصادرة العدد"، يوضح عبد العاطي. وتفادياً لأي خلاف تدخل الكاتب الصحافي طارق التهامي ليضيف إلى العنوان "تحية عسكرية لأرواح الشهداء" وذلك تأكيداً على وقوف الجريدة بجانب الدولة رغم أنها ضد الرئيس المخلوع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين