قال لنا المروّج الواقف على الطريق في حي الزعيترية – الفنار (شرق بيروت) إنه سيعطينا مع الحشيش هدية صغيرة. كانت الهدية كيساً صغيراً من الأعشاب اليابسة ذات الرائحة الغريبة، وهي كما فهمت لاحقاً، واحدة من مئات الهدايا التي وُزّعت على كل من قصد منطقة الفنار في تلك الفترة من أجل شراء المخدرات. وقد ضمنت تلك الخطوة صعود نجم المادة الجديدة في بيروت بسرعة قياسية.
عند تجربتها، تسارعت دقات قلبي، وشعرت ببعض الخوف. كنت عاجزاً عن قول أي كلمة أمام دفق الأفكار والمشاعر التي داهمتني. أصدقائي كانوا في حالة مشابهة، إلا أن أحداً لم يبح بما يشعر به. كل شيء من حولي صار مختلفاً. أنظر إلى الأشياء كأنّي أراها للمرة الأولى، وبدا واقعي السابق زائفاً وكاذباً.
هو ذلك الإيمان المبالغ فيه بالمسلمات، والذي يتحطم مع تدخينك أول سحبة، وهذا ما قد يكون سبباً كافياً للإصابة أحياناً بنوبات الهلع والخوف. فتصبح كمن يمشي في مكان مجهول، على أرض موحلة، تظن أنها ستبتلعك وتغرقك في أي لحظة. لا يعود المكان واحداً أيضاً. أنت في جميع الأمكنة بشكل متوازٍ: في المنزل والسيارة والطريق. وحدك ومع أهلك وأصدقائك في الوقت نفسه.
ورغم قلقنا من المجهول أو ربما بسببه، انفجرنا جميعاً بالضحك بعد دقائق، وهو ما أحسب اليوم أنه رد فعلنا المنطقي الوحيد على اللا منطق الذي كنا في خضمّه. لم يعد لنا سواه لينقذنا من الورطة أو الدوامة التي أوقعنا أنفسنا فيها، والتي شبهها أحدنا بمشهد شخص يمسك بك ويلوح لدقائق في الفضاء قبل أن يعيدك إلى كوكب الأرض.
اختبرت أيضاً تشوهات خفيفة في الرؤية على شكل بقع لونية صغيرة متناثرة، تُظهر كل شيء لزجاً ومائي الطابع. الزمن لا يعود نفسه أيضاً بل يصبح متمدداً ومتطاولاً، فيشعر الشخص أن الدقائق القليلة التي تعتبر الزمن الطبيعي لتأثير المادة، كأنها ساعات طويلة، وهذا غالباً نتيجة تسارع وتيرة تدفق الأفكار وتبلورها.
طبعاً لم ينته القلق كلياً سوى مع انتهاء مفعول المادة، وتأكدي أني لا أزال حياً أرزق. كان مستحيلاً أن أستمتع حتى الأخير بالتجربة بعكس المرات اللاحقة التي كانت أفضل نسبياً ما دمتُ جاهلاً ماهية المادة، وقد أثبتت التجارب أن تأثيرها يختلف مع اختلاف الوضع النفسي للشخص، ومدى تحضيره للجلسة، وهي قادرة على إعطاء تأثير كارثي في بعض الحالات، مع من لا يمتلك تجارب سابقة مع مواد شبيهة، ويمكن أيضاً أن تقدم نشوة استثنائية وأن تكون تجربة فلسفية إذا استطاع الشخص التعامل معها كما يجب.
سالفيا وسالفيا
من أسباب الانتشار الجنوني للمادة في بيروت هو قدرتها الكبيرة على التسبب بالإدمان، وهذا ما حصل فعلياً مع أحد الذين شاركوني في تجربتي الأولى، وقد وصل بعد أشهر عدة إلى مرحلة صار فيها مضطراً للتدخين عدة مرات في الساعة، فكان لهذا الإدمان تأثير تدميري على حياته المهنية والعائلية، خاصة مع اختباره أعراض عدم القدرة على التوقف، التي تشبه أعراض الإدمان على الهيرويين. المثير للاستغراب أنه إلى الآن لم يعرف أحد التركيبة الفعليّة للمادة، وهي سُمّيت منذ البداية "سالفيا" على إسم عشبة من فئة القصعين، يدوم تأثيرها بين 5 و10 دقائق وهي المدّة نفسها لتأثير المادّة التي انتشرت في لبنان. السالفيا قصة ثانية، مختلفة كلياً عن قصة الخليط الكيميائي الذي تعاطيناه، وأكثر إيجابية حتماً. يقال إن أول من استعملها هم السكان الأصليون في المكسيك لما تمتلكه من مفعول هلوسي، يمكن أن يعزز ما يسميه شعب المازتيك مثلاً "الحالة البصرية للوعي"، ويتم تعاطيها (عن طريق المضغ أو التدخين) في طقوس دينية (شامانية Shamanic) تسمى جلسات "التعافي الروحي". طبعأً هلوسة السالفيا الحقيقية تختلف عمّا اختبرناه، فهي تفقد متعاطيها وعيه للعالم الخارجي، ويتداخل الوعي واللا وعي بشكل يجعل منها تجربة قريبة من الأحلام، يرى فيها الشخص ذكريات وأشخاصاً غير حقيقيين. بالتأكيد لا يختبر متعاطي المادة الموجودة في لبنان هذا النوع من التأثيرات. آخرون يشبهونها بمخدرات الـ"Spice" التي بالإمكان الحصول عليها بسهولة في بعض الولايات الأميركية أو الدول الأوروبية، وهي بعكس السالفيا، مركب كيميائي يتم خلطه مع الأعشاب. ورغم ظهورها قبل حوالي الخمس سنوات، لم يبدأ الحديث عنها في الإعلام اللبناني سوى منذ بضعة أشهر، ولا يزال الخلط قائماً بينها وبين السالفيا. حسب المتداول حتى اليوم، فإن المسبب في الهلوسة هو خليط كيميائي يضاف إلى نوع من الأعشاب اليابسة ليسهل تدخينها، والتصنيع لا يزال محلياً ومحصوراً في نطاق التجار الذين أدخلوها إلى لبنان بين العامين 2012 و 2013. الجهل العام بها لا يزال مستمراً، مع غياب حملات للتوعية، مع العلم أن الأمن اللبناني يعترف أسبوعياً بالقبض على متعاطين ومروجين بدون إجراء أي بحث جدي عن المصادر الحقيقية لهذه المادة وأمكنة تصنيعها، ما يثير الريبة طبعاً من احتمال وجود تغطية حقيقية للتجار والمصنعين الحقيقيين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت