في مرحلة زخم الربيع العربي، بدأنا مسيرتنا. كان الأمل كبيراً. كلّ شيء كان يوحي أن القادم أفضل مما مضى. كل شيء كان يسير ظاهرياً نحو الأفضل.
إشكاليات كثيرة بدأت تُطرح في المجتمعات العربية بعدما كانت مغيّبة بسبب قمع الحريات أو بسبب اليأس، وأردنا أن نكون جزءاً من النقاشات المفتوحة حولها، إذ بدا جلياً أن الصحافة العربية لم تكن تعكس اهتمامات الجيل العربي الجديد، وأنها بأشدّ الحاجة إلى التجديد.
ولكن في المشهد العام، كان القديم أقوى منا جميعاً. استطاع تصدّر المشهد من جديد ومقاومة أحلامنا وخفض مستوى طموحاتنا.
أعادنا إلى الإشكالات التي تصدّرت الاهتمامات في عقود القمع الماضية، فكدنا ننسى مرحلة الحلم. عدنا إلى ماضينا الذي تمرّدنا عليه. عدنا إلى التصفيق لسياسات أنظمة قمعية لطالما قيّدت الفكر وأرهبتنا تحت عناوين طنّانة ورنّانة ليبقى "الزعماء" على كراسيهم.
أمور كثيرة تغيّرت. لا يمكن أن نتجاهل آفة الإرهاب التي حلّت علينا، ولا يمكن أن نتجاهل خطرها، ولكن أيضاً لا يمكن أن نسمح بأن تُخضعنا لتحالف موضوعي بينها وبين أنظمة القمع، تحالف يقتل بذور الأمل التي نبتت فينا قبل وقت قصير وحوّلتنا إلى حالمين بمستقبل أفضل، وإلى رسّامين لشكل أيامنا المقبلة.
من هذا الواقع، يحدد رصيف22 موقعه كمنبر يرفض هذا التراجع ويصرّ على الاستمرار في طرح النقاشات حول أولويات الشعوب العربية والقضايا التي تحدد مستقبلنا بعيداً عن أجندات الأنظمة.
في حفل عشاء اجتماعي ضم مجموعة من الشخصيات العربية المؤثرة اليوم، تعرّفت على مستثمر شاب حقق نجاحاً في مجال الإعلام العربي.
نجاحه لم يكن في جودة المنتج الذي يقدمه أو في قيمته، بل في كونه تمكّن من جذب جمهور كبير حول منتج مغرٍ للشركات العالمية، فباع شركته لاحقاً بمبلغ ضخم.
سألني يومذاك عما أفعله في رصيف22، وعما آمله منه، وكانت خلاصة حديثنا أن قال لي: "القارئ العربي لا يساوي حتى سنتاً واحداً" (قاصداً قيمة الكليك في عالم الإعلام الإلكتروني). هي خلاصة كان أحد أبرز الصحافيين في العالم العربي قد لمح إليها عندما استشرته حول مشروع رصيف22 قبل إطلاقه، بقوله: "لا تعذب نفسك، العرب لا يقرأون".
ولكن الحقيقة أننا اليوم، ونحن في عامنا الخامس، وبفريق صغير وبإمكانات بسيطة جداً مقارنة بميزانيات الوسائل الإعلامية الكبرى في المنطقة، تجاوز عدد قرائنا المليونين شهرياً موزعين حول البلاد العربية ال22 كما في المهجر، وهو رقم نطمح إلى مضاعفته في السنة المقبلة فقارىء اليوم يتردد في متابعة الصحف الورقية في نسختها الرقمية لأنه لم يخلق معها يوماً علاقة شخصية.
العرب يقرأون. هذا ما أثبتته تجربتنا. وهناك جمهور واسع متعطش لمحتوى باللغة العربية يحترم ذكاءه، ولإعلام جديد يخالف ما اعتاده في إعلام السلطة والإعلام الموجه.
العرب يقرأون، ويهتمون بالكتابات التي تعالج قضاياهم الحقيقية، وتنطلق من اهتماماتهم المباشرة ومن حاجاتهم الحياتية اليومية لا من أجندات الأنظمة.
هذه الخلاصة لا أقدمها عبثاً، بل هي نتيجة خمس سنوات من التجربة التي تخللتها أخطاء كثيرة، ومن دروس تعلمناها من متابعينا قبل أي شيء آخر.
اعتادت الوسائل الإعلامية العربية والتجارب الجديدة سلوك الطريق السهل: المحتوى الخفيف، القليل التكلفة، والذي لا يتطلب سوى مجهود بسيط، اعتقاداً منها بأنه الخيار الوحيد نحو تحقيق نموذج اقتصادي ناجح. والنتيجة؟ أصبحنا أمام إعلام عربي فارغ، بلا أية قيمة.
ولكن الحقيقة أن الطريق الصعب، الطريق المبني على إنتاج محتوى يقدم قيمة مضافة للقارئ، يعتمد على الأساليب الحديثة من سرد قصصي ومن تنويع في الوسائط، يستحق عناء المحاولة. تخطينا اليوم مرحلة اللايقين. بعد 4 سنوات تخللها الكثير من الصبر، ولحظات لا تحصى من اليأس، نعلم أننا هنا لنستمر، ولنبني نموذجاً ناجحاً وقابلاً للحياة، في زمن انهيار الوسائل الإعلامية التقليدية على أشكالها التي تخطب بالقارى دون خلق حوار.
أمور كثيرة تغيّرت في السنوات الأخيرة: انكسر الخوف، انطفأت هالات قدسية عديدة كانت تحيط برؤوس كثيرين، المرأة تسير نحو تمكين أكبر، الشعوب تدرك شيئاً فشيئاً أن الفساد عدوّها الأول، الإنجاز والتقدم يصبحان تدريجياً محرّكي الشعوب ولو بخجل.
هذا حقيقي ويقاوم حروب الردّة على الربيع العربي. ولو عاد وطرح السؤال حول قيمة "الكليك" في العالم العربي أمامي، لن أتردد في القول: حتماً ليست أقلّ من قيمته في أي بلدٍ آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...