مثلي مثل كثير من أبناء مدن بلادنا، الذكور خاصة، كنت شاهداً على الكثير من حالات التحرش اللفظي، وأحياناً الجسدي، في الشوارع والمواصلات العامة وأماكن العمل الخاصة والمدارس ودور العبادة وفي معظم أماكن تواجد المرأة، ولم أفعل شيئاً تجاه هذه الحالات المشينة. يمكنني أن أضع الكثير من التبريرات لعدم تدخلي لكن في النهاية النتيجة هي أنّ امرأة ما تمّ التحرش بها ولم يتدخل أحدٌ لنجدتها وتلقين المتحرش النذل الدرس الذي يستحق. أيام الدراسة الثانوية، كنتُ مثل معظم طلاب مدينتي، دمشق، أتحرّشُ لفظياً بطالبات من أعمارنا، وكنّا نسمي هذا الفعل تلطيش. كان الذكي منّا هو من يبتكر جملاً إبداعيّة "يلطش" بها البنات في شوارع الشعلان والسبكي. حينها لم أعرف أنّ هذا الفعل الذي نقوم به يسمى تحرش، حينها كان التلطيش إضافة إلى المشكلات وضرب بعضنا خارج أوقات الدوام والمشاغبة والهرب من المدرسة من مكملات الحياة المدرسيّة. بعد أن أنهيتُ دراستي الثانوية وحتى اليوم اعتبر نفسي "منزّهاً" عن أيْ فعل عنصري، ضمناً أفعال العنصريّة ضد القوميات والأديان الأخرى أو أفعال عنصريّة مبنية على لون البشرة أو أفعال عنصريّة ضد الجنس الآخر.
مؤخراً بتُّ أحسب نفسي نسوياً، ولا أقبل أشخاص غير نسويين في دائرة علاقاتي القريبة. لكن هل هذا صحيح حقاً؟ هل، حقاً، لا أمارسُ أيّ فعلٍ تمييزي ضد المرأة؟ هل أنا حقاً لا ألحق أيّ أذى، ولو على صعيد نفسي، بالنساء من حولي؟ كتبت الصديقة رولا أسد مقالة بعنوان "ليس من السهل أن تكون نسوياً" في موقع "سوريا انتولد" في الثاني من نوفمبر-تشرين الثاني 2017 تبحث فيها عن معنى كلمة نسويّة ومعنى أن يكون الفرد نسوياً. أقتبس من مقالة رولا المميزة ما يلي: "في الحقيقة ليس من السهل أن تكون نسوياً، لأنّ ذلك يعني أن تخوض معارك مستمرة بينك وبين ذاتك على مدار اليوم، بالتوازي مع إجراء نقد وتحليل، والمقارنة بين الهنا والهناك، البارحة والآن وغداً". انتهى الاقتباس.
في كلّ يوم أتعلم أن أكون نسوياً أكثر من أجل عالم أكثر عدالة
كان الذكي منّا هو من يبتكر جملاً إبداعيّة "يلطش" بها البنات في شوارع الشعلان والسبكي...لحسن الحظ أنّني مُحاط بنساء رائعات يُنبهنَني في كلّ يوم على أفعال أقوم بها أو أقوال أتفوه بها، عن قصد أو دون قصد، دون أن أكون منتبهاً إلى أنّها، ورغم اعتقادي بأنّها ممارسات اعتياديّة، أفعال أو أقوال تمييزيّة بحق المرأة ذات طبيعة ذكوريّة متسلطة. ليس المقصود بهذه الممارسات، التحرش الجسدي أو اللفظي المباشر بل هي ممارسات اعتيادية لا ننتبه لها في سياق أفعال حياتنا اليوميّة. هي تربية وثقافة خاطئة نشأنا عليها. يُشعرنا بعض الناس بأنّ الحديث عن حقوق النساء في بلادنا يكاد يكون ترفاً رغم فداحة ما يُرتكب ضد النساء. ربما قول "ما يُرتكب" هو تجميل لحقيقة ما يحدث لنساء بلادنا. يكاد المشي في الشارع أن يكون إنجازاً لامرأة ما في مدن مختلفة من بلادنا، والأمثلة كثيرة، فالقاهرة مصنفة كأخطر مدينة كبيرة للمرأة في العالم وحفلات التحرش الجماعي في التجمعات الكبيرة في مصر والأردن وأماكن أخرى أكثر من أن تُعّد.
قلّة تمثيل المرأة في البرلمانات العربيّة دليل آخر على فصل النساء عن الشأن العام فضلاً عن الأجور الأقل مقارنة بالرجال. غني عن القول إنّ أكثر المتضررين في الحروب اليمنيّة والليبيّة والسوريّة هنَّ النساء.
بالطبع الأمر لا يقتصر على بلادنا، ففي كلّ مكان تعاني المرأة من التحرش والتمييز، ولنا في ما حدث في هوليوود خير مثال.
في برلين كلّ يوم أسمع قصصاً عن رجال تحرشوا بنساء أو مارسوا أفعال تمييزيّة ضد النساء. لذلك يكون النضال من أجل حقوق المرأة، دون أي منّة، واجب عين على كلّ فرد يسعى نحو عالم حرّ عادل نستطيع العيش فيه بمساواة وكرامة.
وهذا النضال، بأشكاله المختلفة ومن خلال تفاصيل حياتنا اليوميّة، هو أقل ما يمكن فعله تجاه النساء بعد سنوات طويلة من التمييز ضدّهنّ، هذا إن لم نقل إنّ على الرجال الاعتذار من كلّ امرأة يقابلونها في الشارع عن ما بَدَرَ منه أو بَدَرَ من رجال آخرين ضد نساء آخرين، وخاصة في بلادنا.
بالطبع، ولكي لا يُساء فهمي، أنا لا أقصد أنّ كلّ الرجال سيئين ومتحرشين، هذا غير منطقي وغير عادل، لكن الفعل الرئيسي الذي يُمارس في هذا الزمن هو أنّ النساء يتعرضن للتمييز العنصري المبني على أساس الجنس من "الرجال" وكلّ هذا مبني في مجتمعات ذات أساس وبناء "ذكوري" بشكل شبه كامل.
مرة أخرى، كي لا يُساء فهمي، ليست المرأة فقط هي المعرضة للتمييز العنصري في المجتمعات الذكوريّة بل أيضاً كلّ مختلف وخارج عن "السلطة الأبويّة" مثل مثليي الجنس ومتحولي الجنس أو حتى من يلبس ثياباً بشكل مختلف أو من يفكر بشكل مختلف. أعود إلى سؤالي الذي بدأت به: أأنا أيضاً متحرشٌ بالنساء؟ جوابي البديهي سيكون: لا طبعاً. أسألُ نفسي سؤال آخر بصيغة أوسع وأعّم: هل أمارس أيّ فعلٍ تمييزيّ مبنيّ على أساس الجنس؟ أفكر قليلاً قبل الإجابة: لا حسب معرفتي، لكننّي في كلّ يوم أتعلم أكثر، في كلّ يوم أتعلم أنّ بعض الأفعال-الأقوال التي اعتبرها عاديّة ولا تعني شيئًا تُسيء إلى إنسانٍ ما مختلف عني ببعض الصفات الفيزيائيّة الجسمانيّة، لذا أحاول تجنب هذه الأفعال-الأقوال. في كلّ يوم أتعلم أن أكون نسوياً أكثر من أجل عالم أكثر عدالة.هذا إن لم نقل إنّ على الرجال الاعتذار من كلّ امرأة يقابلونها في الشارع عن ما بَدَرَ منه أو بَدَرَ من رجال آخرين ضد نساء آخرين
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...