ينتقد كثيرون الشغف الذي يملكه الرجال تجاه كرة القدم، وعشق أنديتهم المفضلة، سواء الأوروبية أو المحلية، متهمين إياهم بإنفاق مفرط للوقت والاهتمام على لعبة تتلخص في اثنين وعشرين رجلاً (أو امرأة) يجرون خلف كرة، ويمكن أن يفهم ضمناً أنهم – جمهور كرة القدم – مطالبون بالاهتمام بشؤون أكثر أهمية، أي الشأن العام، ولكن من خلال مقارنة بسيطة يمكن أن نجد أن الولاء لفريق كرة قدمٍ هو فعلٌ وموقفٌ أسمى من الولاء لحكومة أو حزبٍ سياسي، وذلك بسبب عدة فروق، هذه أربعة منها:
لا تطالب أندية كرة القدم وجماهيرها بإقصاء أي نادٍ من بطولة دون أن يخسر مبارياته وفقاً لقواعد المنافسة الشريفة للعبة، كما لا يتهم جمهور نادٍ ما النادي الآخر بالخيانة بسبب اللعب بخطة مختلفة، قد يتهمونه بالجبن أو اللعب الممل ولكن لا يتهمونه بالخيانة، حتى إن مصطلح الخيانة بالكاد يظهر في بعض انتقالات اللاعبين، كما في ملحمة نيمار الأخيرة، وحتى هذا الاتهام لا يتبع بمطالبات بمحاسبة الخائن، كما تقبل جميع الفرق، وإلى حدٍ ما جماهيرها، بدور الفيفا والحكام واتحادات كرة القدم الوطنية في حسم الخلافات "القانونية" بين المتخاصمين.
في المقابل، فإن أنصار شتى الأحزاب السياسية، يتهمون الأحزاب الأخرى وأنصارها والمتعاطفين معها بالخيانة ليلاً نهاراً، وفي أمثلة لا حصر لها، كان أول أفعال جماعة سياسية حين تصل إلى الحكم أن تحظر حزباً آخر، أو كل الأحزاب دفعةً واحدة، وإن كانت هناك جهة مسؤولة عن الحد من تجاوزات الأحزاب السياسية حين تصل للحكم، كمحكمة دستورية مثلاً، فإن الحزب يكون قادراً، مع مرور ما يكفي من سنوات الحكم والولايات الدستورية، على تحجيم دورها وتحويلها لأضحوكة.
اليكم الفرق بين جماهير كرة القدم وجماهير الاحزاب السياسية... هل توافقون كاتب المقال رأيه؟يجمع فريق كرة القدم الأنصار عبر الفوز بالمباريات والبطولات، وليس عداء الأندية الأخرى، كما أن العداء – بالمعنى الكروي المسالم – تجاه نادٍ ما ينبع من تاريخ المنافسة بين الفريقين، ولكنه لا يؤدي إلى تشجيع نادٍ دون غيره، أن تشجع تشيلسي يعني عداءً عميقاً نحو أرسنال وتوتنهام، ولكن لا أحد يشجع تشيلسي فقط لأنه يكره أرسنال وتوتنهام، وحتى في حالات "التعاطف" بين الأندية، كما كانت حال ليستر سيتي وتشيلسي في موسم 2015-2016 من الدوري الإنكليزي، بعد مساهمة الأخير في حرمان توتنهام هوتسبيرز من اللقب، فإن الفريق لا يجرؤ على التقليل من احترام جماهيره والتساهل مع الفريق المتعاطف معه حين يواجهه. في المقابل، فإن التأييد لتيار أو حزبٍ سياسي غالباً ينبع من الكراهية، كراهية مجموعة عرقية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية، وحتى إن فشل الحزب عشرات المرات في الوصول بالبلاد إلى الرفاهية أو حل بعض مشاكلها على الأقل، يستمر مؤيدوه بدعمه، ويتساهلون مع تحالفه مع أعداء الأمس في سبيل الوصول إلى سدة الحكم، ولكم في تناوب حزب العمال وحزب المحافظين في المملكة المتحدة على التحالف مع الليبراليين مثالاً. لا أسماءً مقدسة بالنسبة لجماهير كرة القدم، فلا أحد ينتقل من تشجيع نادٍ إلى آخر بسببِ لاعب أو مدرب، كما لا يقبل بخسارة فريقه المفضل مقابل بقاء أي لاعب أو مدرب. أي فردٍ حين يصبح مؤذياً للفريق سيكون مطالباً بالرحيل، بدءاً بأصغر لاعب، وانتهاءً بالمدرب ورئيس النادي، وكما قال بعض مشجعي تشيلسي حين طالبوا برحيل مورينيو في موسم 2015-2016 الكارثي، وتعرضوا لانتقادات تتهمهم بعدم الوفاء: لا اسم يعلو اسم النادي. علماً أن معظم مؤيدي الأحزاب السياسية، في دول العالم الثالث خصوصاً، ينطلقون من وجود أو ترؤس زعيم (أو زعامات) قبيلتهم أو طائفتهم في حزبٍ أو حكومة ليدعموها، وفي حال فُصِل من الحزب أو غادره، فإنهم يغادرون معه، في سوريا لم يعد أحدٌ قادرٌ على إحصاء الأحزاب الشيوعية، التي لا يمكنك أن تجد فرقاً حقيقياً بينها سوى الزعامات التي أنشأتها، واستمرتْ بتزعمها تقريباً منذ تأسيسها، كما لا يمانع الكثير من مناصري الأحزاب العربية أن يترأسها مجرمو حربٍ لعشراتِ السنين، بما يحمله ذلك على الأقل من إساءةٍ لسمعة أحزابهم، لأنهم ببساطة سبب تأييدهم لأحزابهم. الحماسة لكرة القدم تدفع الأطفال والكبار إلى ممارسة الرياضة والابتعاد عن التدخين والكحول والمخدرات والمنشطات، أو التعصب المفرط للنادي الذي يؤدي بدوره، في أسوأ الحالات، إلى بعض الشتائم بين مشجعي هذا النادي أو ذاك، أو بعض أعمال الشغب في الملاعب، التي تعتبر أياماً سوداء في تاريخ اللعبة، خصوصاً حين تؤدي لسقوط ضحايا، ورد الفعل الرسمي عليها يكون استهجان النادي لأعمال الشغب التي مارسها جمهوره وليس الدفاع عنه، وتحمله للعقوبات بسبب هذه الأعمال، التي تتنوع بين الغرامات المالية وإجراء مبارياته دون جمهور. كذلك أن الحماسة للأحزاب والجهات السياسية تدفع الأطفال والكبار إلى الانضمام إلى التنظيمات المسلحة وقتل الآخرين، والتمييز ضد الأطراف الأخرى متى استطاعوا ذلك، وأعمال العنف التي يمارسها أعضاء هذا الحزب أو ذاك مقدسة ومحقة، وتعتبر قليلة، بل نادرة، الحالات التي اعتذر فيها حزبٌ عن سلوك أنصاره، أو على الأقل لم يبررها ويحاول تجنب تحمل أي مسؤولية عنها، كما أن رد الفعل الحكومي على العنف غالباً ما يكون مرتبطاً بكون ممارسي العنف معارضين أو مؤيدين للجماعة الحاكمة. وفي الأخير، لا يخجل أو يوارب عشاق كرة القدم في تحيزهم لهذا الفريق أو ذاك، كما فعل كاتب هذه التدوينة من خلال إيراد اسم تشيلسي – أروع أندية الكوكب – في ثلاثة أمثلة كروية من أصل أربعة، عكس السياسيين الذين يكذبون وينافقون في حملاتهم الانتخابية، ويظهرون عكس ما يضمرون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...