"اشترِ الخبز من الفرن الخامس -الأخير من جهة بيتنا- إن كان مغلقًا اشترِه من الفرن الثاني وإن كان مغلقًا أيضًا فعليك بالفرن الأول"، كانت هذه الوصية التي ترافقنا دائمًا حين نخرج من البيت قاصدين المخبز لشراء الخبز. تقولها أمي أو جدتي الخبيرتان في شراء حاجيات البيت الغذائيّة.
اسم المخبز الذي كنا نشتري خبزنا منه، والذي يقع في حيّ ركن الدين الملاصق لجبل قاسيون في مدينة دمشق، هو "مخبز ابن العميد الاحتياطي" حسب ما كُتب على اللوحة الكبيرة فوقه أو "أفران ابن العميد" حسب المتعارف عليه بين الناس. وهو بناء كبير من الحجر الأبيض مقسم إلى خمسة مخابز مرقمة بأرقام غير مرتبة من الواحد إلى الخمسة.
لكلّ مخبز منه ثلاث نوافذ: واحدٌ مخصصٌ للنساء وواحدٌ للمدنيين والأخيرُ للعسكريين، وبالطبع لم يكن يلتزم الناس بهذا التقسيم عادة. كنّا نقف في طوابير، تطول أو تقصر، ننتظر العاملين كي يعطونا خبزنا الطيب الخارج لتوه من الفرن. خبزٌ حارٌ شهي.
في بيتنا عادة كنّا نحتاج يوميًا إلى ربطتين من هذا الخبز. وكلّ "ربطة" تحتوي تقريبًا على ثمانية أرغفة كبيرة، يسلمها إلينا العامل في المخبز مع كيس نايلون شفاف، يضعه بين الأرغفة. كان سعر الربطة الواحدة خمس عشرة ليرة سوريّة، بقي السعر هكذا لفترة طويلة. لا أذكر سعرًا آخر للخبز غير هذا.
كنّا نأخذ الخبز من عامل المخبز ونبرّده على الرفرف الحديديّة الموجودة حولنا، ومن ثم نضعه داخل هذه الأكياس ونربطها بطريقة مميزة. كنّا نحمل الخبز إلى البيت بطريقة لا تقسّم الرغيف أو تكسره إلى أجزاء.
بالطبع كنّا نأكل رغيفًا أو بعض رغيف من هذا الخبز اللذيذ في طريقنا إلى البيت، وكان من الممكن أن نعطي شخصًا ما يسألنا بعض الخبز، القليل منه. عادة كان سائقو "الهوندايات" هم من يطلبون منّا الخبز. والهوندايات -مفردها هونداية- هي سيارات صغيرة تنقل الناس والبضائع بين حارات الجبل الضيقة، حارات لا تستطيع السيارات الأخرى الوصول إليها بسهولة.
كان يقال في المدينة إنّ خبز ابن العميد هو أفضل خبز في دمشق وكنت ترى الناس يأتون من أحياء بعيدة جدًا من أجل شراء خبزهم الشهي.
يقولون اليوم إنّ الخبز تغيرت جودته وارتفع سعره كثيرًا منذ تركت البلاد قبل ست سنين. يقولون إنّ الزحام في الطوابير أصبح أكبر وإنّ طعم الخبز تغيّر. كيف تغيّر وهو في ذاكرتي ما زال الخبز الشهي الطازج؟ كيف تغير وأنا أجيب حين اُسأل عن أجمل ما في دمشق: ماء شربها وخبز أفرانها؟ لماذا تغيرت البلاد؟ لماذا فعل الأسد بنا هذا؟ ألم يكفه ما فعلته عائلته ببلادنا لعقود طويلة؟
كانت سوريا بلاداً خربة، لا أمن ولا حريّات ولا كرامة لإنسان، لكن ورغم ذلك كنّآ قد خلقنا لأنفسنا بعض الحب والفرح وسط هذا الخراب، كنا نستمتع بصغائر الأمور من أجل أن نستطيع الاستمرار بالحياة. كان الأكل الطيب ومياه نبع الفيجة كافيين لنحبّ هذه البلاد.
حين أردنا أن لا نكتفي بهذه الأمور الصغيرة وخرجنا عن طاعة السلطان، حين أردنا حياة كالحياة دمّرَ الأسد البلاد فوق رؤوسنا وحرمنا من كلّ شيء، صغيرًا كان أم كبيرًا. لقد حرمنا الأسد حتى من هذا الخبز ، خبز أفران ابن العميد الشهي.
لقد حُرمنا من البلاد ولنا في بعض المنفى بلاد.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...