تداعب نسمات الهواء البارد وجهَ مها محمود وهي تخرج من خيمتها، تحت السماء التي تبدو كقبة سوداء مرصعة بملايين النجوم. تجلس مها على بساطها مستعدة للصلاة، حيث تجد سلامها الداخلي في الصحراء وبين الجبال بعيداً من المدن الصاخبة مثل القاهرة التي تسكنها، وبعيداً أيضاً عن رحلات السياحة الشاطئية الصاخبة في شرم الشيخ.
شاركت مها في رحلة تخييم مع مجموعة إلى الوادي الملون في صحراء سيناء، واجتازت سيراً على الأقدام منطقة يسكنها قبائل الترابين والجبالية في درب من أطول دروب السير في مصر، وسط أعلى الجبال في سيناء أو ما يسمى "سقف مصر" نسبة إلى مرتفعات تحتضن مساراً مقدساً ودير سانت كاترين المدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

مع شروق الشمس تحركت مها للمشي في عمق الوادي الملون، أحد المسارات بدرب إسلا بين مدينتي كاترين والطور، في رحلة بدأت معها اكتشاف جزء جديد من ذاتها وترتبط بهواية المشي الطويل بين الجبال.
بالنسبة لاثنين من منظمي رحلات المشي بين الجبال، تعتبر مها واحدة ممن جذبتهم الدعاية والترويج للسياحة الداخلية في مصر وانتشار صور الرحالة لأماكن لم تكن معروفة للمصريين قبل عام 2010، لتفتح مجالا للسياحة البيئية وسياحة المشي بين الجبال.
عمل بدو هذه المناطق على مرافقة الحجاج عبر دروب سيناء إلى مكة، والمسيحيين إلى دير سانت كاترين أو القدس، وتتناوب القبائل كأدلة ومن أجل اصطحاب الزوار من منطقة إلى أخرى بدعم من الجمال وتجهيز المسارات بالعتاد والمياه، بحسب يوسف الجبالي، دليل بدوي بمنطقة كاترين.
تأثرت السياحة في سيناء بعد الثورة المصرية في كانون الثاني/يناير 2011، وحادث سقوط الطائرة الروسية في تشرين الأول/أكتوبر 2015، فبدأت بعدها الحكومة المصرية الترويجَ للسياحة الداخلية للمصريين
تقول مها محمود (45 عاماً)، وهي أم لشاب تخرج من الجامعة وشابة تدرس في السنة النهائية بكلية الهندسة، وتعمل كمدربة لأساليب الحياة، إن "تجربة التخييم في الصحراء أعادت لي الفرصة لاكتشاف نفسي، بعكس رحلات السياحة الشاطئية بمدن شرم الشيخ والغردقة. الجبال لها هيبتها وسطوتها وخالية من البشر تقريباً".
تعتقد مها بأن طاقات البشر تؤثر على الأماكن، لذلك تبتعد عن المناطق المزدحمة في الشواطئ، وتقول "حول البحر طاقات الناس كثيفة، وتؤثر في من حولها بعكس الجبل الذي يخيم حوله عدد قليل من البشر بطاقات ترغب في التحرر من ازدحام المدن. كما أن اتساع الصحراء وقلة أعداد البشر بها يساعد على توزيع أي طاقة سلبية، وتبقى طاقة الصحراء والجبل تشفي الروح، وتشعر بأن المكان ينظف نفسه بتجديد طاقته ونقلها إلى زواره الراغبين في الراحة".
وتضيف: "تجربة التخييم الأولي كانت خلال عام 2023 لمدة ليلتين فقط في موقع تخييم بإمكانيات قليلة، وحمام في الخلاء. بالنسبة لي كان الأمر تحدياً كبيراً كسيدة مهووسة بالنظافة الشخصية؛ فحتى وإن بقيت خارج المنزل ليوم كامل، أحب الاسترخاء ليلاً بحمام ساخن وسرير دافئ نظيف، وهو ما لايوجد في الصحراء. ولكني وجدت كيف يمكنني التصرف في مثل هذه الظروف والعودة سعيدة إلى المنزل، وأصبحت مستعدة لدفع مقابل أعلى من المبيت في فندق في سبيل اكتشاف نفسي بالصحراء وبين الجبال".
تبتسم وهي تقول: "بالطبع كان بيننا خلال الرحلة من اكتفى بليلة واحدة في الصحراء على سبيل التجربة دون تكرارها، إلا أن التواصل النقي في الهواء الطلق جعلني أفكر في تكرار التجربة والخطوة التالية كانت في درب البدو للمشي على الأقدام لمسافة 200 كيلو متر مقسمة على ثمانية أيام، وهذه أكبر مغامراتي التي أتاحت لي تواصل روحي وذاتي أقوى".

تحب مها الصلاة ليلاً قبل الفجر، وتشرح أن خروجها للصلاة من الخيمة في عتمة الليل والسماء مرصعة بالنجوم جعلها تشعر بأنها أكثر اتصالاً مع الله بتركيز وخشوع أكبر، "وكأنك تتحدث مع نفسك أمام الله"، بحسب وصفها.
وتقول: "لم تكن رحلة روحية فقط، ولكن كان لها تأثير بدني نتيجة المشي لمسافة طويلة حتى نصل لنقطة تستطيع فيها السيارات أو الجمال حمل أمتعتنا. وتعلمت خلال الرحلات المشي بحذر، ففي المدينة أسير وأنظر إلى واجهات المحلات، ولكن في الجبال والصحراء، أنظر من أجل أن أعرف موطئ قدمي لاختلاف طبيعة الأرض بين الصخور والرمال أو على البحر".
لم يكن الجهد البدني للرحلة مشكلة كبيرة لها، لأنها معتادة على الأداء الرياضي، فهي تهوى ركوب الخيل، والمشي الرياضي، والركض أحياناً، وممارسة التدريبات في صالات الجيم، إلا أن المشي في الجبال رياضة مختلفة، تقول مها.
سياحة داخلية من التواصل الاجتماعي
يقول ياسر مصطفى الرسول، مؤسس مجموعة المستكشف المصري، على أن سياحة المشي بين الدروب الجبلية في سيناء أو جبال البحر الأحمر كانت معروفة لعدد من السائحين الأجانب منذ التسعينيات، وبدأ يعرفها المصريون مع انتشار صور الرحالة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يعتبر ياسر من الرحالة المستكشفين للجبال والصحراء، ومع ظهور موقع فيسبوك، ونشر صور الرحلات، تشجع الأصدقاء للانضمام إليه حتى تحولت الهواية إلى مبادرة لنشر روح اكتشاف أماكن سياحية مصرية بالنسبة له، ويوضحه باسم مجموعته "المستكشف المصري".

يؤكد مؤسس مجموعة "المستكشف المصري": "توقفت رحلات السياحة الأجنبية إلى سيناء، وأصبح البديل هو السائح المصري، بالإضافة إلى أن الدعاية على الإنترنت لم تكن موجودة بنفس الكثافة خلال عام 2010. وأصبح هناك رحلات لأماكن بعيدة مثل استكشاف حلايب وشلاتين وسيوة وسيناء"، فبدأ فكرة جروب المستكشف المصري لنشر صور الرحلات، ومع الوقت أصبح يشارك معه أصدقاء، وتحولت ''المستكشف المصري" لمجموعة لتنظيم رحلات سياحة بيئية تعتمد على السياحة البيئية.

تأثرت السياحة في سيناء بعد الثورة المصرية في كانون الثاني/يناير 2011، وحادث سقوط الطائرة الروسية في تشرين الأول/أكتوبر 2015، فبدأت بعدها الحكومة المصرية الترويجَ للسياحة الداخلية للمصريين.
ويضيف: "هناك من يفضل رحلات الصحراء لرياضة تسلق الجبال والمشي لمسافات طويلة، ليس لأنها رحلات روحية ودينية، وإنما للاسترخاء واستكشاف الذات، وفي منطقة كاترين زيارات روحية للمشي في الوديان والدير وتذكر لمسار سيدنا موسى".
ويستطرد: "من يريد الصحراء يفضل الراحة، قد يكون التفكير الأول للرحلة السفر إلى مناطق ساحلية، ولكن الرحلات في الصحراء بها إبهار بالطبيعة والصحبة الحلوة، وذكريات جميلة والسباحة في عين مياه في وسط الجبال والفارق في الطاقة الروحانية".
ويقول ياسر: "هناك مزارات في سيناء بها طاقة روحية، مثل جبل المناجاة والصفصافة في كاترين اللذين يقال إنهما من مسار سيدنا موسى، وجبل مقسوم إلى نصفين يقال إنه جبل التجلي دون أي إثبات تاريخي".
سياحة روحية وليست دينية
يعتمد مروان إبراهيم (33 عاماً) أخصائي رياضي بوزارة الشباب بمدينة الإسكندرية، على كتاب" السياحة الدينية في سيناء" كمرجع له خلال رحلاته للمشي والمغامرة بين دروب سيناء، ويقول، "أقراً كثيراً عن الرحلات ولكن الأمر يختلف عندما تري بنفسك ما كنت تقرأ عنه. خلال المغامرة في سيناء تعرفت على عادات وتقاليد وطريقة للحياة في جبال سيناء. قابلت القبائل من أهل المنطقة في جنوب سيناء، كقبيلة الجبالية والمزينة وأولاد سعيد. وعندما كنت أذهب كثيراً هناك فقد كنت أتردد للتسلق أو لصعود تلك الجبال هناك ومن خلال السير أجد أن هناك شيئاً مختلف عن الصحراء خلال السير والتخييم في الجبال و في تلك الدروب من حيث الصفاء الذهني عن روتين الحياة اليومية كما أنى وجدت الهدوء الذى يجعل الوعيَ منفصلاً عن ما كنا عليه".
ويضيف مروان: "أذكر في إحدى رحلاتي لمدينة سانت كاترين قد اتخذت دليلاً من قبيلة الجبالية اسمه يوسف الجبالي توجيهي لطريق صعود جبل كاترينا. كنت أحاول تركيز طاقتي والحديث معه عن عاداتهم وما قرأت عنه والآن أشاهده بعيني وقصص أصحاب الأرض مختلفة عن الكتب".
كتاب "السياحة الدينية في سيناء" الصادر عن دار نشر جزيرة الورد ومؤلفه الشيخ محمد عبد العظيم إبراهيم رئيس المنطقة الأزهرية الأسبق بجنوب سيناء، يحاول الربط بين مناطق جغرافية في سيناء ومطابقتها مع رواية القرآن الكريم لقصة نبي الله موسي، إذ جاء فيه: "الرأي الراجح والذي يؤيده دلائل تتفق مع رواية القرآن الكريم وإن كان لم يحدد مكان نزول القرآن، ولم يحدد اسم الغار الذي دخله النبي محمد (ص)، ولا مكان الشجرة التي بايع عندها الصحابة الرسول، ولا المكان الذي ولد الذي ولد فيه أي من الأنبياء إلا بالإشارات، أما في قصة موسى عليه السلام عبر سيناء فقد اهتم بالأماكن وذكرها في أكثر من موقع، إلا أن المفسرين للقرآن الكريم لم يهتموا بتحديد الأماكن".

مدينة كاترين بقمة جبل موسى ودير القديسة كاترين، كانا مشهورين منذ وقت طويل، لكن المنطقة بها دروب كثيرة غير مستكشفة، ودروب محددة لرحلات الأجانب سابقاً، إلا أنه حالياً هناك رحلات مشيٍ تمتد لمسافة 200 كيلومتر، ما بين نوبيع حتى مدينة الطور، ويمرّ بدرب إسلا لمسافة 35 كيلومتر، الذي يعتقد أنه الوادي المقدس "طوى" المذكور فى القرآن، وبأنه الوادي الذي أنزل الله به رسالته على النبي موسى.
طوى، في اللغة العربية، تعني المخفي، حيث إن الوادي لا يعرف بدايته أو نهايته، وليس له نقاط معروفة على الخرائط، وإنما يجده الدليل البدوي من خلال خبرته المتوارثة عبر الأجيال في المشي في دروب الصحراء.
من جهة أخرى، يعتمد ياسر مصطفى الرسول، مؤسس مجموعة "المستكشف المصري"، على كتاب "تاريخ سيناء" لمؤلفه نعوم شقير، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1916، وأعيد نشره بمكتبة هنداوي عام 2018، بما فيه من وصفٍ لدروب سيناء وخاصة درب إسلا.
يقول ياسر مصطفى الرسول مؤسس مجموعة "المستكشف المصري": "توقفت رحلات السياحة الأجنبية إلى سيناء، وأصبح البديل هو السائح المصري، بالإضافة إلى أن الدعاية على الإنترنت لم تكن موجودة بنفس الكثافة خلال عام 2010
يصف نعوم شقير، في كتابه، دربَ إسلا بأنه وادٍ "ينشأ من غربي طور سيناء، ويسير متعرجاً بين الجبال الجرانيتية إلى أن يصب في سهل القاع على نحو 14 ميلاً من مدينة الطور، وهو أجمل وادٍ في سيناء، وفيه عين تجري مسافة قصيرة ثم تغور في الرمال، وفيه طريق مختصرة من الطور إلى دير سيناء ويعرف رأسه بوداي الطرفاء".
مثل هذه الآراء لا يؤكدها الدكتور مصطفى نور الدين، كبير الباحثين بمنطقة آثار جنوب سيناء، ويقول لرصيف22: "هناك أماكن يعتقد أنها ذكرت في التوراة قصة بني إسرائيل، ولكن ذكر قصة سيدنا موسى لم يأت بشكل واضح في القرآن الكريم، والبحث عن الأماكن الأثرية المرتبطة بقدسية دينية يهتم بها علماء الآثار ورجال الدين، وفي سيناء أكثر من موضع يمكن الإشارة إليه بصفة دينية".
يشير نور الدين إلي موقعين أساسيين، هما منطقة عيون موسى القريبة من خليج السويس وموقع سرابيط الخادم؛ الأول به اثنتا عشرة عيناً للماء، ما يتشابه مع قصة شق البحر للنبي موسى، ثم تحديد آبار للمياه لبني إسرائيل، وسرابيط الخادم، وادٍ به معبد قديم للمعبودة الفرعونية حتحور.
يقول نور الدين: "بالنسبة لموقع سرابيط هناك آراء بأنها مقر عبادة البقرة لبني إسرائيل. القرآن لم يحدد الموقع بالضبط، والدليل المادي ليس موجوداً، ولكن في منطقة سرابيط الخادم، هناك معبد فرعوني للمعبودة حتحور، وتمثلها بقرة. يمكن أن يكون ذلك هو أساس الاعتقاد".

يكتفي بخليج العقبة والسياحة الشاطئية، ولكن هناك مناطق مختلفة تحتاج للتسويق لها والترويج أكبر. وبغض النظر عن وجود معالم أثرية على الأرض أم لا، فهناك من يهوى السياحة البيئية والتخييم في الجبال والمشي الطويل، وهو ما يروج له حالياً بجهد محلي من البدو، سكان الجبال في سيناء. إلا أن هذا الاتجاه يحتاج إلى دعم من الدولة".
ويضيف: "السفاري ليس فقط الجولة على 'بيتش باجي' والسهرة البدوية على الجبل؛ رحلات الصحراء يروج لها البدو من سكانها ويتولون هم مهمة دليل المشي في الجبل، ويقصدها هواة الهدوء والطبيعة".
وبالنسبة لمها محمود: "الاختيار في السفر يكون في التواصل مع مركزية النفس والتواصل النقي مع الروح والذات، والطاقة الداخلية. خلال تجربة التخييم الأولى اكتشفت أماكن في الصحراء، وأيضاً نفسي الداخلية وقدرة الله، والروح التي لا تجدها في ازدحام القاهرة أو الفنادق الفاخرة؛ فأمام الشاطئ تجد نفسك تركز في تصرفات من حولك بسبب الازدحام، إنما في الصحراء يكون تركيزك على نفسك فقط وطاقتك".
أصبحت مها واحدة من هواة رحلات الصحراء التخييم بين الجبال، حيث كانت نقطة تحول في حياتها، أعادت اكتشاف ذاتها وقدرتها على التكيف مع الظروف الصعبة. فوجدت أن طاقة الطبيعة النقية تساعد على تطهير الروح وتجديدها. تقول: "كانت الصلاة في الصحراء أفضل دليل للحالة الروحية، ويكفي أنني أصلي في وادٍ نؤمن بأن الله تجلى فيه لنبيه موسى، لأبلغ السلام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.