كانت مرح (15 عاماً) تجلس على كرسي جلدي أسود في أحد صالونات التجميل النسائيّة المدمّرة جزئيّاً بفعل القصف الإسرائيليّ في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. تنتظر دورها لتصفيف شعرها الأشقر المجعّد. وبيديها الصغيرتين تقلّب في شاشة هاتفها النٍّال عن قصّة شعر مناسبة لعروس.
طلبت مرح من مصفّفة الشعر أن تجعل شعرها أملس ومنساباً، وأن تضع فوق وجهها القليل من مساحيق التجميل. فالحرب في غزة، كما تقول، لا تسمح لها بالإفراط في التزين. كما أنّ ذلك يتناسب مع ثوبها الفلاحيّ المطرّز الذي ترتديه ليوم زفافها.
تم تزويج مرح، في سن مبكرة، في آب/ أغسطس 2024، من يزيد ابن خالها (24 عاماً)، في طقوس صامتة وسط صوت الانفجارات الذي يهز المنطقة، وفي الوقت الذي كان من مفترض أن تكون مرح فيه جالسةً فوق مقعد الدراسة تراجع منهجها التعليمي.
لكن الحرب قلبت حياتها رأساً على عقب، بعد أن نزحت مع عائلتها المكونة من 16 فرد منذ أكثر من عام من مدينة بيت حانون شمال غزة، إلى مخيمات النزوح وسط القطاع.
وبحسب قاعدة البيانات التي نشرها الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ عام 2022، فإنّ 7% من حالات الزواج في فلسطين كانت لفتيات قاصرات، مع فرق بائن بين غزّة والضفّة. ففي حين تمّ تزويج 1352 فتاة دون الثامنة عشر في الضفّة، زُوّجت 3840 فتاة في غزّة، في عام 2021. وبحسب الجهاز، ففي عام 2020، تمّ إجبار واحدة من كلّ عشر فتيات دون الثامنة عشر على الزواج.
صحيح أنّ حرب الإبادة المستمرّة منذ أكثر من عام، أوقفت عمل المؤسّسات الرسميّة في الإحصاء والمراقبة، إلّا أنّ متخصّصين في المجال يلاحظون حالات متزايدة في تزويج الفتيات في غزّة، في ظلّ ظروف الحرب والحصار المطبق.
منعاً لانتهاك الخصوصيّة؟
"لم أكن لأفكر بالزواج لو جاءت هذه الفرصة قبل الحرب. كنت طالبةً متفوّقة وأحبّ التعلّم. لكن ظروف النزوح القاسية والتشرد وضعتني تحت ضغوط نفسية وعائلية كبيرة، لا سيما أن عدد أفراد أسرتي كبير وخيمتنا لا تكفينا. لذا قررت أن أخفف من أعباء عائلتي وأتزوج"، تقول مرح لرصيف22، واصفة الدافع الذي أجبرها على القبول بفكرة الزواج.
وتتابع:" فقد والدي عمله في الحرب، ولم يعد يستطيع تلبية حاجاتنا اليومية، حتّى الطعام. وأصبحنا نعيش في فقر مدقع. أنا محرومة من شراء أغراضي الشخصية اللازمة لكل فتاة، وباتت حياتي كئيبة، أصحو وأنام على صوت خلافات أسرتي".
ظروف النزوح القاسية والتشرد وضعتني تحت ضغوط نفسية وعائلية كبيرة، لا سيما أن عدد أفراد أسرتي كبير وخيمتنا لا تكفينا. لذا قررت أن أخفف من أعباء عائلتي وأتزوج
تبدلت حياة مرح من العيش بخيمة مع عائلتها إلى العيش بخيمة مع زوجها الذي يعمل بائع خضروات، ليقوم بمسؤولية "الإنفاق عليها وتوفير ما يلزمها"، كما تقول.
وربّما يبدو واضحاً أنّ امتداد الحرب والحصار، واشتداد الظروف اللاإنسانيّة المفروضة على الغزيين، واكتظاظ الحياة في خيام النازحين، دفعت عائلات إلى تزويج بناتهنّ، أو دفعتهنّ إلى القبول بالزواج "هرباً من قسوة الحياة المعيشيّة والاقتصاديّة".
فعلى غرار حالة مرح، لم تنتظر والدة يارا شفيق (15 عاماً) حتى بلوغ ابنتها السنّ القانونيّة للزواج، مبرّرة ذلك بأنّه "سترة وتخفيف لأعباء العائلة ومصروفها"، وأنّ زواجها "سيتيح للأمّ الإنفاق على شقيقيها الصغيرين، كما تقول الأمّ نجاح ثابت (40 عاماً) لرصيف22.
وترى أنّها اضطرت لتزويج ابنتها بسن مبكرة، بعد أن استشهد والدها في الحرب الحاليّة على غزة، فنزحت العائلة نحو خمسة مرات من مخيم الشاطئ غرب القطاع، إلى جنوبه. "وفي كل مرّة، أواجه تحديات صعبة في الحفاظ على ابنتي من أيّ تعدي أو انتهاك لخصوصيتها في مخيمات ومراكز إيواء النازحين جنوب القطاع"، تضيف نجاح.
تساهل قانونيّ
يؤكّد الباحث الفلسطيني د. طلال أبو ركبة، في حديثه لرصيف22 أنّ "الحرب والأزمات تشكل أحد أهم الأسباب والدوافع وراء زيادة انتشار التزويج المبكر للفتيات، لا سيما في قطاع غزة".
ويعزو أبو ركبة ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة والفقر الذي تواجهه معظم العائلات، فتلجأ "للتخلص من مصاريف بناتهن" من خلال تزويجهن بسن مبكرة، خاصّة أنّ "احتياجات الفتاة البيولوجية قد تختلف عن احتياجات الذكور، وبالتالي تحتاج لإنفاق أكبر وفق معتقدات هذه العائلات".
شعرت بالقلق على يارا في كلّ مرة سمعت عن حالات تحرش بالفتيات في أماكن النزوح، فكنت أضطرّ لقضاء وقتي كلّها معها حتّى لا تتحرّك وحدها
كما يرجح الباحث أسباباً تعود لمحدودية التعليم وربّما الجهل في العادات والتقاليد المجتمعية، التي تدفع العائلات لتزويج بناتهن تحت ما يسمى بـ " السترة ".
ويردف: "ناهيك عن الاكتظاظ والتكدس في أماكن النزوح، وهو سبب للتزويج ظهر في هذه الحرب الحاليّة. فعبّرت عائلات كثيرة عن خوفها على فتياتها من التعدي أو التحرش، لا سيما في ظل حالة الفوضى وانعدام الضوابط القانونيّة، التي تُفقدها الشعور بقدرتها على حماية تلك الفتيات".
وتجري عقود الزواج المبكر بشكل قانوني في الحرب في المحاكم الشرعية التي تفتح أبوابها للزواج فقط أو الطلاق برضا الطرفين، وفق أبو ركبة، الذي يشير إلى تساهل القانون الفلسطينيّ، أصلاً، مع حالات التزويج المبكر، الذي يجيز للقاضي تزويج من هنّ دون الثامنة عشر، إذا ادّعت الفتيات البلوغ وكانت هيئتهنّ وبنيتهنّ الجسديّة تدلّ على ذلك.
قرط ذهب مقابل تكوين أسرة
بينما كانت الفتاة يارا تنظر إلى قرط ذهب أهداه إليها زوجها منير (27 عاماً)، الذي يعمل بتجارة وصيانة الهواتف النقالة، وذلك بمناسبة مرور 4 شهور على زواجهما، تقول الأمّ نجاح: "لم أعد قادرة على تحمل أعباء يارا وأشقائها وحدي. فهم يحتاجون لمصروف يومي، ونحن نعيش على " تكيات الطعام"، والمساعدات الاغاثية. كما أنّي شعرت بالقلق على يارا في كلّ مرة سمعت عن حالات تحرش بالفتيات في أماكن النزوح، فكنت أضطرّ لقضاء وقتي كلّها معها حتّى لا تتحرّك وحدها".
وتتابع نجاح: "مسؤوليتي الكبيرة تجاهها هي ما دفعني لتزويجها. في المقابل، لا أشعر بالذنب عندما تتطلب مني شيئاً وأعجز عن تلبيته. هي الآن متزوجة ولديها رجل يقف بجانبها ويحميها ويوفر لها متطلبات الحياة بعد فقدان والدها".
وتشير الأم إلى أنها "ضمنت حق ابنتها" رغم أنها تزوجت في سن مبكرة، من خلال عقد زواج مبرم وشرعي بمهر ومقدم ومؤخر، في المحكمة الشرعية جنوب غزة.
كما تعتقد الأمّ أن "بنية يارا الجسدية شجعتها على تزويجها، "أصبحت يارا صبيّة وبإمكانها تكوين أسرة وتحمّل المسؤوليّات"، تقول.
تداعيات خطيرة
في السّياق نفسه، تعقب سعاد غندور، اختصاصيّة في علم النفس وطب الأسرة، قائلةً لرصيف22: "إنّ مؤشر البنية الجسدية الذي تضعه العائلات لتزويج بناتهن بسن مبكرة، يحمل لهن أضراراً سلبية. فالفتاة لا تزال في طور النمو، مما يعرضها لأزمات كبيرة، نفسية وصحية ومجتمعية".
وتضيف: "التداعيات الخطيرة للزواج المبكر ستتجلّى على صعيد الفتاة والأسرة الجديدة التي ستكونها. فلن يأخذ أطفالها حقهم في الرعاية الكاملة، خاصة في ظل الحرب على قطاع غزة. لا يوجد حليب للأطفال، ولا حفاظات، ولا بيئة صحيّة، سيّما في مخيّمات ومراكز النزوح".
إنّ مؤشر البنية الجسدية الذي تضعه العائلات لتزويج بناتهن بسن مبكرة، يحمل لهن أضراراً سلبية. فالفتاة لا تزال في طور النمو، مما يعرضها لأزمات كبيرة، نفسية وصحية ومجتمعية
وأوضحت غندور أن كثرة النزوح والتنقل القسري الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي على المناطق السكنيّة في قطاع غزة، يجعل الفتيات الحوامل عرضة للإجهاض مما يتسبب لهن بانعكاسات سلبية على صحتهن الإنجابية.
"كما أن الفتاة في سن مبكرة، تعد مراهقة وبحاجة لاهتمام ورعاية، وبعد الزواج يصبح مطلوب منها تقديم الرعاية والاهتمام لأسرتها. الأمر الذي يضعها في ضغط وإجهاد نفسيين يفوقان طاقتها، خاصة إذا كانت الفتاة تعيش في مخيمات النزوح"، تقول غندور.
وتختم بنصيحة للأهالي في قطاع غزة: "على العائلات التريث قبل تزويج فتياتهن في سن مبكرة، حفاظاً على حياتهن في ظل الخطر المحدق بهن من كل جانب في غزة، وفي ظلّ استمرار الحرب الإسرائيلية الشرسة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 3 أيامأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 4 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ أسبوعtester.whitebeard@gmail.com