شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حتى في عيادات أسنان... كيف تحولت مراكز طبية إلى بؤر انتشار للإيدز بالعراق؟

حتى في عيادات أسنان... كيف تحولت مراكز طبية إلى بؤر انتشار للإيدز بالعراق؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

السبت 25 مايو 202408:36 ص

في العراق، ما إن تحط مشكلة رحالها حتى تهيج عواصف مشكلة أخرى جديدة مرتبطة بها، وهذا ما حصل بعد رواج أخبار حول انتشار الإيدز في البلاد، ورغم أن هذه الأخبار ليست بجديدة أثارت فزعاً مجتمعياً واسعاً لا سيّما في ظل الشائعات عن فساد أو تلوث بعض اللقاحات الأساسية للأطفال به.

فيروس العوز المناعي البشري (HIV) هو عدوى تهاجم جهاز المناعة في الجسم، ومتلازمة العوز المناعي المكتسب (الإيدز) هي المرحلة الأكثر تقدماً من المرض.

لا يزال فيروس العوز المناعي البشري يمثّل مشكلة صحية عامة عالمية رئيسية، بحسب منظمة الصحة العالمية التي تؤكد أنه أودى بحياة أكثر من 40 مليون شخص مع استمرار انتقال العدوى في جميع بلدان العالم، وإبلاغ بعض البلدان عن اتجاهات متزايدة في الإصابات الجديدة. علماً أنه لا يوجد علاج لعدوى فيروس العوز المناعي البشري.

ظهور الإيدز في العراق

عام 1986، سجّل العراق أول إصابة بالإيدز، بعد إخضاع 286 مريضاً بالهيموفيليا لمصلين خاصين لعلاج تخثّر الدم، هما "فاكتر 8 وفاكتر 9" من صنع شركة ماريو الفرنسية، تبيّن لاحقاً تلوثهما بعدوى الإيدز، وبما أن العدوى لا علاج لها، ويجهل كثير من العراقيين الطريقة المناسبة للتعامل مع المصاب لغياب التوعية، إضافة إلى تردّي الواقع الطبي في البلاد، زادت الإصابات منذ ذلك الحين.

يخشى العراقيون الإيدز ليس فقط بسبب المعلومات المغلوطة الرائجة حوله محلياً وعالمياً، لكن أيضاً بسبب تدهور القطاع الصحي، والوصمة الأعراف الاجتماعية والقبلية المرتبطة به. متى ظهرت العدوى في العراق؟ وما هي أسباب انتشارها؟ وهل تقوم الحكومة بدورها حيال ذلك؟

عام 2018، وثّق العراق وجود 377 حاملاً للفيروس على أراضيه، وهو العدد الذي تصاعد  إلى أكثر من 2000 إصابة في العام الجاري، بحسب تصريحات رسمية، وإن تكهّن البعض بأن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر.

ويخشى العراقيون الإيدز ليس فقط بسبب المعلومات المغلوطة الرائجة حوله محلياً وعالمياً، لكن أيضاً بسبب تدهور القطاع الصحي، والوصمة الأعراف الاجتماعية والقبلية المرتبطة به إذ يُعتقد خطأً أن حامله انتقلت إليه العدوى عبر علاقة جنسية "محرّمة"، ما يدل على ضعف الوعي بطبيعة العدوى وكيفية انتقالها.

هذا الوصم الاجتماعي دفع مراراً وتكراراً أسراً عراقية إلى منع أبنائها من تناول لقاحات أساسية مثل لقاحات الحصبة التي تخوّف منها عراقيون إثر تصريحات أدلى بها محلل سياسي يُدعى بشير الحجيمي، في آذار/ مارس الماضي، خلال أحد اللقاءات التلفزيونية، حيث اتهم وزارة الصحة العراقية باستيراد لقاحات حصبة ملوّثة بعدوى الإيدز.

وزارة الصحة بدورها ثارت ضد هذه التصريحات، ونفى وزيرها صحة هذه الاتهامات، مؤكداً أن اللقاحات تم استيرادها من "مناشئ عالمية". كما كشفت الوزارة عن رفع دعوى قضائية ضد الحجيمي، بتهمة نشر الأخبار المضللة وتهديد الأمن الصحي للمواطنين.

لجنة الصحة النيابية دخلت على خط الأزمة، وقالت عضوتها ثناء الزجراوي، لجريدة الصباح الرسمية، إن العراق من بين الدول المنخفضة التوطين لفيروس نقص المناعة المكتسبة، معتمدةً على مؤشرات منظمة الصحة العالمية، التي تُشير إلى أن إصابة أقل من 1% لكل 100 ألف نسمة هي ضمن الدول المنخفضة الإصابة بالإيدز. ولم يسجل العراق أكثر من 6 حالات لكل 100 ألف نسمة تقريباً.

اللجنة النيابية سبق أن اعتمدت التصريحات نفسها عام 2018، بالإشارة إلى الإحصائيات الرسمية المعلنة، ولكنّ أطباء كُثراً يؤكدون أن هذه الإحصائيات تفتقر إلى الدقة وأن أعداد المصابين بالفيروس والمتلازمة تفوق بأضعاف المعلن عنه، نظراً إلى رفض الكثيرين الإفصاح عن الإصابة أو جهلهم بها بالأساس بسبب ضعف الوعي الصحي.

مراكز مشبوهة

انتشار الإيدز في العراق لا يقتصر على الممارسة الجنسية غير الآمنة، بل عادةً ما يُشار في أسباب انتقال عدواه إلى الاستخدام غير الآمن لبعض الأدوات المستخدمة في الوشم والحجامة حيث ينتقل عبر الدم أو اللعاب الملوث بالعدوى. عدد من مراكز الحجامة والوشم في مقدمة المتهمين بنشر العدوى بسبب غياب التعقيم، على الأرجح تلك التي تمارس عملها بدون رخصة أو تصريح حكومي. علماً أن الاشتراطات الحكومية المرتبطة بهذه التصاريح شبه معدومة، ولا يُّفرض على أصحاب هذه المراكز أي شروط من شأنها الحفاظ على صحة المواطنين، رغم خطورتها الصحية.

بعض صالونات الحلاقة النسائية والرجالية في قائمة المتهمين بنقل عدوى فيروس نقص المناعة، وكذلك مراكز وصالونات التجميل المنتشرة بقوة في البلاد والتي تفتقر إلى التعقيم الضروري ولا تُراعي خطورة استخدام بعض الأدوات مع أكثر من فرد.

يتجاهل العاملون في هذه الأماكن الإرشادات الصحية الضرورية، بحسب تصريح عضو مركز السيطرة على الأمراض المعدية، التابع لوزارة الصحة العراقية، الطبيب أحمد الشمري، الذي يقول لرصيف22 إن انتشار هذه المراكز لعب دوراً كبيراً في انتشار العدوى، بسبب تجاهلها تعقيم الأدوات المستخدمة بالصورة المناسبة، وتناقل استخدام الأدوات الملوثة بين الزبائن، مثل المقصات وشفرات الحلاقة والإبر، وكؤوس سحب الدم المستعملة في الحجامة الطبية. يؤكد الشمري أن بعض عيادات طب الأسنان تقوم بهذه السلوكيات غير الصحية.

انتشار الإيدز في العراق لا يقتصر على الممارسة الجنسية غير الآمنة، بل عادةً ما يُشار في أسباب انتقال عدواه إلى الاستخدام غير الآمن لبعض الأدوات المستخدمة في الوشم والحجامة حيث ينتقل عبر الدم أو اللعاب الملوث

عيادات الأسنان في مرمى الاتهام

يلجأ كثير من أطباء الأسنان إلى استخدام مواد تعقيم تجارية بسبب رخص ثمنها، أو تخفيف المعقمات الطبية الفعالة بالماء من أجل تجنب شراء علب جديدة منه، بحسب تصريح الشمري لرصيف22.

طبيب الأسنان علي سعد يؤكد ذلك. ويقول لرصيف22 إن أطباء عديدون يستخدمون معقمات "سوقية" في تعقيم أدواتهم وتحديداً ما يُعرف بالـ"هاند بيس" المستخدمة في ثقب الأسنان وحفرها، إضافة إلى الملاقط.

ويضيف أن بعض أدوات علاج الأسنان ينبغى أن تُستخدم لمرة واحدة فقط، لكن عدداً من الأطباء يستخدمونها أكثر من مرة لأكثر من مريض من أجل توفير التكلفة وتجنب شراء مواد جديدة أيضاً، مثل المرايا العاكسة وأنابيب شفط اللعاب البلاستيكية.

محمد خلدون (30 عاماً)، من بغداد، يؤكد إصابته - بشكل مفاجئ - بفيروس عوز المناعة المكتسب. يقول: "أحسست بتعب وخمول. بعد إجراء الفحوصات اللازمة، تبيّنت إصابتي بالفيروس، فكرت في سبب العدوى كثيراً. قيل لي إنه ينتقل عبر الدم، وحيث أني لم أخضع لأي إجراء طبي باستثناء علاج أسناني، ذهبت إلى الطبيب للاستفسار لم يقل شيئاً".

بعد ضغوط عشائرية على الطبيب، يقول محمد إن الطبيب اعترف باستخدام أدوات غير معقمة في علاجه، ومنحه لذلك فصل عشائري مالي (تعويضاً مالياً).

مستشفيات ولكن

مراكز التضميد والمستوصفات الخاصة هي مراكز صحية يلجأ إليها المواطنون من أجل المعالجة الطبية، ولكنها في العراق قد تكون سبباً في نقل العديد من الأمراض المعدية، ولذلك يسميها البعض "المراكز التجارية" حيث جمع المال في المرتبة الأولى ضمن أولوياتها التي تتذيلها أخلاقيات المهنة الطبية والإنسانية. 

أدوات غير معقمة يخرجونها من خزائنهم بلا أدنى اكتراث لصحة المواطنين، بعضهم يكتفي بتعقيم المشارط أو اللفافات بالصابون العادي، ويعيدون استعمالها لعدد من المرضى، بحسب أحد أعضاء لجان التفتيش التابعة لوزارة الصحة، والذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية الموضوع.

يؤكد المصدر لرصيف22 أن اللجنة عاجزة عن اتخاذ أي إجراء ضد مثل هذه المؤسسات الصحية، بسبب علاقات أصحابها ومن يديرونها مع جهات عليا داخل الوزارة أو في الحكومة والأحزاب المهيمنة على الساحة العراقية، ولا تقتصر هذه الممارسات على المستوصفات الخاصة والأهلية، وتشمل الحكومية أيضاً.

ويفيد بأن "الكثير من المستوصفات الحكومية تعتبر المريض مجرد رقم، تطالب عبره بالمزيد من أموال الموازنة المالية التي تمنحها الوزارة للمستوصفات التابعة لها وفقاً لعدد المرضى الذين يُعالجون فيها، وهذه الموازنة مخصصة بالأساس من أجل شراء أدوات طبية وصحية جديدة، ولكنهم يعيدون تدوير الأدوات القديمة من أجل سرقة هذه الأموال".

ليس هذا فحسب، فبعض المراكز الصحية تبيع ما تمنحه الوزارة لهم من مستلزمات طبية في الأسواق، وتواصل استخدام المستلزمات القديمة بعد الاكتفاء بغسلها فقط.

تتجاهل الكثير من المختبرات الطبية إخضاع المتبرع بالدم للفحوص اللازمة من أجل تبيان سلامته من هذه الأمراض، هذا الإهمال ناجم عن تراجع أخلاقيات المهنة الطبية، بحسب الدكتور المختبري عماد الراوي الذي يقول لرصيف22 إن المختبرات الصحية ترفض إخضاع المتبرع للفحوص المطلوبة بسبب الوقت والجهد الذي تتطلبه مثل هذه الفحوص

في عام 2022، دخل الطفل ذو الستة أعوام، زكريا شامل، للعلاج في مستشفى ابن سينا في مدينة الموصل، بسبب سقوطه على رأسه، ولكنه خرج منها حاملاً فيروس نقص المناعة المكتسبة، بعد نقل دم ملوث له.

وتتجاهل الكثير من المختبرات الطبية إخضاع المتبرع بالدم للفحوص اللازمة من أجل تبيان سلامته من هذه الأمراض، هذا الإهمال ناجم عن تراجع أخلاقيات المهنة الطبية، بحسب الدكتور المختبري عماد الراوي الذي يقول لرصيف22 إن المختبرات الصحية ترفض إخضاع المتبرع للفحوص المطلوبة بسبب الوقت والجهد الذي تتطلبه مثل هذه الفحوص.

السياحة الجنسية في الداخل والخارج

تلعب السياحة دوراً إيجابياً في العراق، وكثرة الضغوط الاجتماعية والسياسية التي يتعرض لها العراقيون تدفعهم إلى محاولة الابتعاد عن واقعهم ولو قليلاً بالسفر خارجياً بما يُسهم في تحسن صحتهم النفسية.

في الوقت نفسه، السياحة الجنسية حاضرة حيث يسافر البعض إلى دول معينة لأجلها على غرار جورجيا فيما فريق آخر يتجه إلى دول مثل إيران من أجل زواج المتعة.

في جميع هذه الحالات، قد تؤدي الممارسة الجنسية غير الآمنة وعدم القيام بأية فحوص طبية تؤكد خلو الطرفين من أمراض منقولة، وهو أمر شائع في العراق، إلى نقل العدوى بفيروس نقص المناعة المكتسبة. علماً أن زواج المتعة ينتشر داخل العراق أيضاً.

الحكومة لا تقوم بدورها

ضعف عمل الدولة يُلقي بأثره على هذه الأزمة من خلال ضعف حملاتها التوعوية بفيروس نقص المناعة المكتسبة، والإيدز، وطرق العدوى وأيضاً سبل الوقاية والتعايش.

من الضروري أن تُخضع الحكومة العراقية المواطنين العائدين من الخارج لفحوص الكشف عن فيروس نقص المناعة المكتسبة من أجل السيطرة على انتشار عدواه، ومطالبة جميع الوافدين الأجانب بإجراء مثل هذه الفحوص من أجل ضمان سلامتهم وسلامة من يخالطونهم.

الطبيب المختص في الأمراض المعدية في مستشفى اليرموك، محمد الجزائري، يؤكد أن التوعية ضرورية جداً ويفترض المباشرة بها من خلال برامج تلفزيونية علاوة على توزيع نشرات تثقيفية على المواطنين، من أجل توعيتهم بالفيروس وتحفيزهم على الفحص الطبي، إضافة إلى التوعية التي تدحض الوصمة الاجتماعية والأفكار المغلوطة عن الإيدز، والتوضيح أنه مثل باقي الأمراض يُصاب به الناس بسبب ضعف الوعي أو سوء الممارسة وليس عبر الجنس فحسب.

ويؤكد لرصيف22 أن الإيدز ورغم عدم وجود علاج له، ولكن الوزارة تستورد الأدوية الخاصة التي تثبط وتوقف انتشاره وتجعل المتعايش معه قادر على مواصلة حياته "بصورة شبه طبيعية"، متابعاً بأن هذه الأدوية تستورد وفقاً لأعداد المصابين ويمنع بيعها في الصيدليات أو المراكز الصحية الخارجية.

ويوصي الطبيب المختص أيضاً بضرورة أن تُخضع الحكومة العراقية المواطنين العائدين من الخارج لفحوص الكشف عن فيروس نقص المناعة المكتسبة من أجل السيطرة على انتشار عدواه، ومطالبة جميع الوافدين الأجانب بإجراء مثل هذه الفحوص من أجل ضمان سلامتهم وسلامة من يخالطونهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard